الأحد، 20 مارس 2011

الحرب الروسية في جورجيا…… الموقف الدولي يتساقط من أيدي أمريكا


 17 أغسطس 2008

روسيا تعصف بالتفرد الأمريكي بالموقف الدولي

في سابقة هي الأولى من نوعها قامت القوات الروسية باجتياح الأراضي الجورجية منذرةً بحربٍ باردة جديدة مع الغرب وكأنها تجتاح تشيكوسلوفاكيا في الستينات.  كانت الأزمة مع الرئيس الجورجي ساكاشفيلي الذي أدخل قوات بلاده الى إقليمه المتمرد أوسيتي الجنوبية، فما كان من روسيا إلا المبادرة بالحرب غير مكتفيةٍ بحدود منطقة أوسيتي الجنوبية ومقتربةً من تبليسي عاصمة جورجيا.

والناظر في الأحداث هذه يجد أن روحاً فعلية قد نمت في السياسة الروسية على مدار السنوات الخمس الماضية قد دفعتها الى اتخاذ هذا الموقف الغريب على روسيا الاتحادية خلال العقدين الماضيين. وهنا المسألة ليست متعلقة إطلاقاً بالمسألة القفقازية برمتها، إذ إن روسسيا الاتحادية خاسرة بدخولها جورجيا في الاطار القفقازي، ولكن الظاهر ان لروسيا حسابات أبعد من ذلك.

 

 أما كونها خاسرةً فروسيا لا تخطط على الأرجح لضم إقليمي أوسيتي الجنوبية وأبخازية لها فهي من الناحية الاستراتيجية ليست بحاجة الى أراضٍ جديدة، وفوق ذلك فإن القوميات القفقازية هي سبب للكثير من آلامها. وقد يكون في أذهان الروس أن بعض القوميات القفقازية كالاوسيتيين يمكن وضعهم في مواجهة الشيشان في القفقاز فينشغل أهل القفقاز بأنفسهم بعيداً عن الاحتلال الروسي، ولكن إشعال حرب قومية داخل روسيا يضر بروسيا أكثر مما ينفعها ويظهرها على أنها تفقد السيطرة داخلياً، لذلك فمن البعيد أن يكون ذلك هو الهدف الروسي في الوقت الحالي.
وأما إن كانت روسيا تفكر في دعم استقلال أبخازية وربما أوسيتي الجنوبية عن جورجيا فإن الخسارة الروسية تكون أشد، إذ من شأن ذلك أن يدفع بالقوميات الثائرة داخل روسيا كالشيشان والداغستان للمزيد من المطالبة بالاستقلال، وقد تفتح السياسة الروسية هذه باب القفقاز على مصراعية أمام تدخل القوى الكبرى في تلك المنطقة المتأزمة أصلاً فيهدد ذلك بخلخلة وضع روسيا برمته في القفقاز. والظاهر أن السياسة الروسية في جورجيا تأخذ بعين الاعتبار ما هو أبعد من ذلك، إنه إعادة إبراز روسيا كقوة قادرةٍ على الفعل وفرض الإرادة على الأرض خارج أراضيها ليعترف لها العالم وتحديداً الولايات المتحدة بعظمتها، لذلك كله فهذه ليست حرب أوسيتي الجنوبية وليست حرب أبخازية بل وليست حرب جورجيا وإنما هي حلقة جديدة من حروب العظمة الروسية.

وبيان ذلك على النحو التالي: تدرك روسيا بأن المقاومة العراقية قد أصابت التفرد الأمريكي بالموقف الدولي في مقتل، وأن أمريكا بعنجهيتها بعد فشلها في كسر شوكة المقاومة في العراق لم تعد تلك الدولة المخيفة التي يجب الخضوع لها، وفي هذا الاطار أدرك الكثير من الساسة الأمريكيين بأن الموقف في العراق يضغف أمريكا دولياً ويضر بها استراتيجياً، وفعلاً تعاني أمريكا من مشاكل سياسية واقتصادية بشكل عام وعسكرية في مناطق احتلالها في العراق وأفغانستان، الأمر الذي تلمسه روسيا كما تلمسه بقية دول العالم بشكل جدي. والنتيجة الحتمية لهذا الواقع أن أمريكا لا تستحق التفرد بالموقف الدولي في نظر معظم الدول الكبرى الطامحة، فبدأت روسيا وربما غيرها من الدول الكبرى بالاعداد لما بعد حقبة التفرد الأمريكي أي المطالبة عبر السلم والآن عبر الحرب بحصة في الموقف الدولي. وربما إدراكاً من وزيرة الخارجية رايس لهذه الحقائق فقد حملت الرئيس الجورجي ساكاشفيلي جزءً من المسؤولية في منح روسيا الذرائع لاجتياح بلاده، أي مسؤولية إتاحة المجال للروس لكشف الضعف الأمريكي عملياً، وربما تكون قد أدركت ذلك بعد حدوثه، إذ لم يكن ذلك متوقعاً أمريكياً، فكانت أمريكا تظن بأن الموقف الدولي على حاله من التفرد الأمريكي على الرغم من الاشارات الروسية الكثيرة التي سبقت ذلك، وكانت أمريكا تنجح في إجهاضها.

على أثر الضعف الأمريكي العام والناتج عن شدة بأس مقاومة المسلمين في العراق أولاً وأفغانستان ثانياً تمكنت روسيا من إعادة ترتيب أوراقها الاقليمية وإن لم تكملها، ولما تزامن ذلك مع سياسة شركات النفط الأمريكية وكذلك صناديق الاستثمار أي مع السياسة الأمريكية برفع سعر النفط فإن روسيا ربما كانت المستفيد الأول من العائدات النفطية، فهي تصدر ستة ملايين برميل يومياً فتجني مليارات الدولارات. واستطاعت بذلك ترميم اقتصادها المتهالك، وعلى الرغم من استمرار ضعف الاقتصاد الروسي وأنه مثله مثل دول الخليج تقريباً يرتكز على النفط أساً وإن كان يضاف اليه مبيعات غير كبيرة من السلاح إلا أن أنين روسيا الاقتصادي قد أوقفته عائدات النفط خلال هذا العقد. وعندها تيسر لروسيا الاستغناء عن المؤسسات المانحة الغربية وأصبحت أكثر اعتماداً على عائدات نفطها من المساعدات التي صبغت حقبة التسعينات.
وعند كل ذلك من الظروف الاقتصادية الجديدة لروسيا ومن ظرف الضعف الأمريكي الجديد أدركت روسيا ان الحلبة الاقليمية قد اصبحت مفتوحة لها لابراز نفسها فيها، فكانت الحرب الجورجية حرباً لإعادة روسيا لوضع العظمة وليس لأي أطماع لها في أراضي جورجياً.

وهذا جلي من تتبع الوقائع والظروف في الفضاء السوفييتي السابق، فمن ناحية آسيا الوسطى فقد استطاعت روسيا إعادة نفسها وبقوة لتلك المنطقة فضمنت ولاء حكامها لها ونجحت في إخراج القواعد العسكرية الأمريكية التي ملئت تلك المنطقة بعد 11 سبتمبر 2001، والآن لم يتبق لأمريكا من قواعد إلا قاعدة ماناس الجوية في بشكيك عاصمة كيرغيزية، وملف إخراجها قد وضعته روسيا على طاولة نشاطاتها منذ أكثر من سنتين. والثورات البرتقالية الأمريكية في الفضاء السوفييتي السابق قد تم ايقاف زخمها بدعم روسيا للقوى السياسية المؤيدة لها في أوكرانيا وجورجيا، وكانت جورجياً قد شهدت صخباً كبيراً في صيف 2008 كاد أن يطيح بجماعة أمريكا من الحكم ويعيد جماعة روسيا الى الواجهة، وربما أضرت الأعمال الروسية الأخيرة كثيراً بمؤيديها في جورجيا وكبلتهم عن العمل ضد ساكاشفيلي، ولكن لروسيا حسابات أبعد من هؤلاء العملاء.

والآن وفي خضم هذه الظروف الناشئة في القفقاز فإن القطب الأمريكي الأوحد قد سقط، وقد ظهر للرئيس الجورجي ساكاشفيلي ولغيره من أزلام أمريكا عجز واشنطن عن فرض إرادتها على روسيا. وبغض النظر عن الرد الأمريكي والذي قد يأخذ شكل الايقاع غير الساخن بين روسيا وأوكرانيا لا سيما في مسألة أسطول البحر الأسود الروسي الجاثم في موانئ أوكرانيا، أو نصب أجزاء الدرع الصاروخية في بولندا أو دعم المقاتلين الشيشان أو إبعاد روسيا عن المؤسسات الدولية لا سيما مجموعة السبع الصناعية + روسيا، فإن هدف روسيا في فرض إرادتها في المنطقة القفقازية وكشفها للضعف الأمريكي قد تحقق، وأن أمريكا وغيرها من دول العالم ستأخذ بالمصالح الروسية بجدية بعد الآن، وإن كان ذلك لا يزال محصوراً بالفضاء السوفييتي السابق.

خسرت روسيا في كوسوفو بعد أن خسرت كامل أوروبا الشرقية ولكنها الآن تحاول إعادة الاعتبار لنفسها في جورجيا. لم تتفكك دول اوروبا الشرقية عن روسيا فحسب بل ونجحت أمريكا في تحويل تلك الدول الى أعداء لروسيا وبشراسة غالباً. إن أعمال روسيا تعيد ترتيب خريطة القوى في الموقف الدولي الجديد الذي أوجده تدخلها في جورجيا، إلا أن أي من القوى العالمية لن يصطف مع روسيا، فروسيا المعتادة على العزلة تساهم في إعادة نفسها للعزلة، فبروز الوحش الروسي من جديد سيؤدي الى إضعاف القوى الأوروبية المنادية بالانفصال عن الولايات المتحدة في الناتو ويبقي الناتو كتلةً أكثر تماسكاً من ذي قبل، ولا يمكن للصين ان تكون هي الأخرى راضيةً رغم سكوتها عن هذه السياسة الروسية.

وأما عن المدى الذي يمكن لروسيا أن تسير فيه قي صعودها الجديد فإنه قصير للغاية، وهو أقل بكثير من الفضاء السوفييتي السابق، أي أن المصالح الجديدة لروسيا هي أقل من حدود روسيا القيصرية قبل الثورة الشيوعية وقطعاً أقل من حدود دولة الاتحاد السوفييتي وذلك بسبب فقدانها لدول البلطيق ووقوفها الآن على عتبة فقدان أوكرانيا وجورجيا نهائياً. ولولا ضعف الغرب عموماً لكانت الأعمال الروسية الحالية في جورجيا مقتلاً لها بما يمكن أن تولده من ردات فعل استقلالية شرسة داخل أراضيها مدعومة بموقف دولي قوي وضاغط على الاقتصاد الروسي. وإن كان أيضاً مدى الفاعلية الروسية على الحلبة التي تعتبرها فضاءً لمصالحها أي ما تبقى من دول المنظومة السوفييتية يعتمد بقوة على سياسة الادارة الأمريكية القادمة والتي  يرجح أن تكون أقل فاعلية منها الآن مهما كان اسم الرئيس الأمريكي الجديد ، وبهذا المعنى فإن الراجح هو أن تتمكن روسيا من رسم صورتها الجديدة في فضائها الصغير الذي قزمته بيريسترويكا غورباتشوف.

والذي تدمع له العين أن هذه القوى القديمة المتجددة تضعف وتكاد تموت ثم تحيى من جديد وغالباً ما يكون مركز نشاطها في المناطق الاسلامية وليس للمسلمين قوة تبرز وتحمي دينهم وأرضهم وتضع حداً للقوى المتجبرة سواء الولايات المتحدة أم روسيا، وإن كنا ندرك بأن عودة العداء الروسي الأمريكي من جديد سيمكن دولة الخلافة عند بروزها بإذن الله من النيل من كليهما بشكل أشد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق