الاثنين، 21 مارس 2011

رياح التغيير في المنطقة

عصفت النار التي أحرقت جسد البوعزيزي في مدينة سيدي بوزيد التونسية بكل الرماد الذي كان يغطي الجمر الملتهب في المنطقة العربية خصوصاً، بل وباقي مناطق العالم الإسلامي. ذلك الجمر الذي يلتهب كراهيةً للحكام ويهدد بالعصف بالأنظمة الحاكمة ونفوذ المستعمرين في بلادنا، ومن الجدير التنبيه إليه هنا أن قوة ذلك الجمر لم يكن أحد يتصورها سوى الحزب، فقد صدمت الأحداث التونسية والمصرية دوائر المخابرات العالمية والتي ألقت حكوماتها باللوم عليها لعدم تمكنها من التنبؤ بكل الأحداث.

أطاحت رياح التغيير برؤوس الحكام في تونس ومصر وها هي تأكل رأس حاكم ليبيا واشتعلت المواجهات بين المحتجين والحكام في عدة مناطق أخرى كاليمن والبحرين والأردن والمغرب والعراق بما فيه كردستان وكذلك في إيران. نقلت رياح التغيير هذه الحكام من حالة الاستقرار والاطمئنان إلى حالة الخوف والهلع مما هو آتٍ بعد أن كشرت الشعوب عن أسنانها في وجه حكامها فانكشف المستور المغطى بالرماد من ذوبان أي ثقة بين الشعوب الإسلامية وحكامها، فقام بعضهم باستدعاء المرتزقة المأجورين من إفريقيا وطلب نظام الأسد من حزب الله بإسناده ب8 ألاف مقاتل للدفاع عنه أمام هبة جماهيرية متوقعة، والمخفي أعظم.


كشفت الأحداث من ناحية أخرى ضعف الرابطة التي تربط هؤلاء الحكام بأقرب الناس إليهم، فقد طلب رئيس الحرس الرئاسي في تونس من زين العابدين بن علي مغادرة البلاد على جناح السرعة، ورفض الجيش التدخل على حد ما تناقلته وسائل الإعلام، بل إن أقرب المقربين منه قد عملوا على تجميد أمواله وتناغموا بسهولة مع التوجهات الشعبية وكذلك الدولية التي تريد حفظ ماء وجهها أمام الشعوب الإسلامية في مسألة وضع القيود على أموال الحكام الذين سقطوا من أنظمة الحكم أو آلوا للسقوط. وفي ليبيا فقد تنصل من القذافي ضباط جيشه ووزير داخليته وأفراد شرطته، بل وبنو عمومته، ناهيك عن الوجهاء والقيادات القبلية في ليبيا. ولم يكن النظام المصري استثناءً من ذلك فقد تنصلت منه وسائل إعلامه ورفض جيشه قتال المحتجين، وتظاهرت ضده بعد سقوطه أفراد أمنه الذين بطش بهم بالمحتجين بداية الأزمة.

إن هذه الحال التي نصفها والتي تبين عين ما يحدث عملياً في البلاد العربية الآن هي عين ما كان يسقينا به الحزب من معلومات وأفكار عن طبيعة الأنظمة الحاكمة- نواطير المصالح الغربية في بلاد المسلمين، والتي كان مختصرها يقول للأمة بأنها في وادٍ والحكام في وادٍ آخر غير قابلين للالتقاء. وأن ما نراه من انهيار جدار الحكام تحت وطأة الهبات الجماهيرية هي أيضاً عين ما كان الحزب يدعو الأمة إليه من وجوب القيام بمحاسبة الحكام والمطالبة بالتغيير، وكان حديث "سيد الشهداء حمزة ورجل قام الى امام جائر فنصحه فنهاه فقتله" يمثل قمة مطالبتنا الأمة بالقيام بالمحاسبة لتغيير على الحكام. وها هي المحاسبة تؤتي ثمارها بشكل متعاظم، فقد كانت محاسبةً لا هوادة فيها لبعض رؤوس الحكم بينما أعلنت الكثير من الحكومات العربية برامج إصلاحية وأقالت بعض الوزراء غير المرغوبين شعبياً.

رأى كثيرون تطاير رؤساء ووزراء من أنظمة الحكم، فاحتاروا إن كان ذلك هدماً للنظام أم هو غير ذلك، واشتعل الأمل لدى الشباب بقرب الخلافة الراشدة التي تلي حقبة الحكم الجبري هذه مباشرة وفق نص حديث المصطفى عليه السلام. والنظام الجاثم على صدور الناس هو غير العلاقات التي تتحكم بشؤون الناس فتشكل منهم مجتمعاً ذا صبغة معينة، إذ إن طبيعة العلاقات لا تتأثر بفعل انقراض أفراد الناس ولو كان ذلك بالجملة كما في الحروب والكوارث، وتبقى العلاقات كما هي دون تغيير مالم تبدل الأمة قناعاتها ومشاعرها ونظامها. أما النظام السياسي فهو بالإضافة إلى أفكار الحكم التي تسن منها القوانين عبارة عن جماعة محسوبة بفعل كل ركن فيها في إرساء ذلك النظام، ومن ناحية أخرى فإن ولاء هؤلاء الحكام أو الجماعة التي في الحكم يعتبر صفة أساسية لاصقة بالنظام ولا تقل أهمية عن رجالاته وأفكاره بما لها من تأثير هائل على سياسات ذلك النظام التي ترسم وجهته.

والناظر في أحوال تونس ومصر ومعها ليبيا يجد أن أركاناً كبرى من النظام قد انهارت، وقد تم استدعاء رجالات الصف الثاني من النظام للواجهة، ومع استمرار الدفع الجماهيري لهدم النظام فإن رجالات الصف الثاني هؤلاء منشغلون بإرضاء الشعب، وفي تونس فقد وقف الصف الثاني على حافة الانهيار الكامل وهنا لا يعلم مدى قدرة رجالات الصف الثالث عن المضي قدماً والحفاظ على ذات النظام، وهنا قد يسقط النظام. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن رجالات الصف الثاني أو الثالث الذين تم استدعائهم للنهوض بالنظام والمحافظة عليه، قد تم استدعائهم للقيام بذلك لفترة انتقالية وجيزة هي في حدود الشهور الستة. وصمود النظام برمته بعد تلك الفترة الانتقالية يعتمد بقوة على عمق الروح الثورية واستمرارها لدى الشعوب خلال الفترة الانتقالية، مع أن الظاهر هو الاستمرار كما هي المظاهرات المستمرة دون هدوء في تونس وكذا في مصر. وبهذه الشواهد يمكن الجزم بأن أنظمة الحكم العربية قد أخرجت من مرحلة السكون والاستقرار ودخلت طور الانهدام. ويجري التهديم الحقيقي بمعاول الثورة الشعبية والجماهير، وما نراه من محاولات للأنظمة للحفاظ على ذاتها فإن الراجح أنه لن يكتب لتلك المحاولات النجاح، وذلك لسببين:

الأول: أن هذه الأنظمة والأفكار الغربية التي تتبناها قد استهلكت بالكامل، وليس فيها جديد يمكن تقديمه للأمة، وأن وسائل النظام غير قادرة على التجديد، ولعل في مواجهة تلك الأنظمة للأمة الهائجة بمليشيات الحزب الحاكم في تونس والبلطجية في مصر والمرتزقة في ليبيا ما يدل على أن وسائل هذه الأنظمة باتت غير قادرة على التجديد والإبداع حتى في المسائل التي تمثل رأس المصالح الحيوية للنظام وهي الحفاظ عليه من السقوط.

والثاني: أن رجالات الحكم (الصف الثاني والثالث) يعملون الآن تحت الضغط، وتحت وطأة تربص الجماهير، وهذه البيئة تختلف عن تلك التي بنى فيها أسلافهم هذه الأنظمة في غفلة من الأمة ورعاية من الكافر المستعمر والذي بات تدخله مرفوضاً بشكل كبير في البلاد الإسلامية. وهذه البيئة الجديدة في ظل صحوة الجماهير تجعل الفشل هو سيد الموقف لهؤلاء. وأن رحيلهم الفعلي هو القادم بإذن الله لتكون خلافة على منهاج النبوة مصداقاً لقول النبي الأمي الذي لا ينطق عن الهوى، وإن كانت الإشارة جديرة بأن ذلك الحديث ليس من صنف المتواتر. و تتعزز هذه النتيجة إذا ما علمنا أن مطامع الحكم والفساد وليس روح المسؤولية والرعوية هي واحدة من أهم الأعراف والتقاليد السياسية التي أرستها الأنظمة القائمة، فغابت عن الروح القيادية الحقيقية والتي بغيابها غابت الزعامات القادرة على التأثير في الجماهير كعبد الناصر وطغت الروح اللصوصية والبحث عن الصيد السمين بانغماس تلك القيادات بالفساد حتى أذنيها، وخلفت ذلك عرفاً وتقليداً سياسياً لمن يأتي بعدها من رجالات صفوفها الثاني والثالث. فلا تعرف الأمة أي زعامة ناشئة من تلك الصفوف، بل إن تلك الرجالات لا ترى في أي منها روح الزعامة، ووجودها ودفعها إلى الأمام الآن ما هو إلا مصالح للمستعمر ليحافظ على بقايا نفوذ بين أنقاض النظام الذي يتهدم، وليس اندفاع مسؤول وذاتي. وهذا العامل عظيم الأهمية في قراءة مستقبل هذه الطبقة من السياسيين والمدى الذي يمكن لها أن تسير فيه وهي تحت وطأة ضغط الجماهير الذي انفلت من عقاله.

على أنه يجب ملاحظة أن الثورة الشعبية تقوم بعملية الهدم بجدارة ولكنها عاجزة عن البناء. وأن الجماهير لا تزال في طور البحث عن أولئك الذين يبنون لها نظاماً جديداً جديراً بالثقة، فأصبحت الأمة الآن في أمس الحاجة إلى العمل الحزبي الجريء الذي يقدم للأمة فكراً للنظام القادم ويظهر لها قيادتها القادمة. وكما نرى فإن عجز الأمة عن استنباط نظام جديد ظاهر ظهور الشمس، بل هو الأزمة بعينها للثوار أنفسهم وقياداتهم التي يغلب عليها الطابع الشبابي. ويخطئ من يظن أننا قد بيًنا نظام الإسلام للناس وما عليهم إلا تبنيه الآن وهم يبحثون عن القيادة الفكرية الجديدة. والى هؤلاء نقول: إن طرح القيادة الفكرية الثقيلة التي تحشو عقولنا للناس ليست بالمسألة التي يتصورها بسطاء الشباب، لأنه في مرحلة البناء لا يمكن أن تنفصل القيادة الفكرية عن القيادة السياسية في الأمة، فالأمة ومعها قياداتها الشابة القائمة على الثورة وإن كانت تبحث عن أفكار الحكم التي تروي عطشها، ولكنها تبحث عن القيادات التي تحمل هذه الأفكار لتلتف حولها وتعطيها بسلاسة واطمئنان زمام قيادتها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد انفتحت الكثير من الأبواب للاتصال بالقيادات العسكرية بعد أن كانت أبوابها موصدة، وإذا كان التغيير والثورة هما الخبز اليومي الذي يتناوله الناس الآن وهم يقبعون خلف الشاشات فإن ذلك ليس ببعيد عن القيادات الفاعلة بين العسكر، وذلك أن جدار الصمت الذي انهار قد فتح تلك الأبواب لمن يمتلك البديل ليطرحه ويقود الأمة به في مرحلتها التي ستلي الحكم الجبري.

والذي يجب أن يكون معلوماً أن الخريطة السياسية في الأمة تتبدل بشكل سريع. فخلال عقدين انهارت أحزاب اليسار والاشتراكية بشكل موازٍ لانهيار الاتحاد السوفييتي، وبرزت الحركات الإسلامية بشكل لافت. وإذا كنا نجزم بنهاية الأحزاب الحاكمة التي استهلكت كل ما عندها وعاثت في الأمة فساداً وإفساداً، فإننا نجزم أيضاً بأن تحركات الأمة الجريئة ومبادرتها المباركة لهدم النظام قد تجاوزت بها الكثير من الحركات الإسلامية لا سيما التي توصف بالاعتدال، ولعل المشهد المصري كان شديد الوقعة على ما يسمى بتيار الاعتدال الإسلامي، ففي الوقت الذي كانت فيه الجماهير المصرية صامدة تحت النار في ميدان التحرير ولا تقبل بأقل من رأس النظام هرول زعماء الحركة الإسلامية ملبين النداء الذي أطلقه عمر سليمان للحوار مع النظام، ذلك النداء الذي استهزأت به الجماهير المصرية التي كانت تصر على رحيل النظام، وفعلاً ليست إلا أيام لم تستطع الحركة الإسلامية الصبر فيها وانهار رأس النظام المصري. وبهذا وغيره مثله، فقدت انهارت أي آمال لما يسمى بالتيار الإسلامي المعتدل بالقيادة في المستقبل. والذي يدقق الملاحظة يجد أن ذلك التيار قد ناضل من أجل أن يصبح جزءً من النظام السياسي العربي القائم، وإذا كانت الجماهير تريد إسقاط ذلك النظام برمته فإن سقوط التيار الإسلامي المعتدل سيكون أكيداً بما تبناه من أفكار وسياسات ليقبله النظام العربي، وهو الآن لا يمكنه الانفكاك عنها من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن ذلك لم يبق له أي رصيد في الأمة من القيادة المستقبلية. ولذلك تراه يجالس الحركات العلمانية بل والأحزاب الحاكمة ويدعو إلى دولة مدنية لا دينية، ويتماهى مع النغمة الاستعمارية التي تجاهر بخوفها من الإسلام، لدرجة توحد شعوراً بأنهم قد يكونون ضد تطبيق الإسلام والانفراد بالإسلام في قيادة الأمة.


وأما نحن، فنحن عنوان المرحلة القادمة ورجالاتها، إذ لم نكن جزءً من أي نظام قائم، بل واشتهر نضالنا ضد تلك الأنظمة ودعواتنا بإسقاطها وبطشها بنا، وهنا حصل اللقاء بين الأمة وبيننا بعد أن كسرت الأمة حاجز الخوف، ذلك الحاجز الذي كنا قد كسرناه منذ الخمسينات. وحتى يحصل الالتحام بيننا وبين الأمة الثائرة لا شك أنه يطلب منها عمل كبير، ولكن ومن الآن فإن مسألة استئناف الحياة الإسلامية قد صارت قاب قوسين أو أدنى.
ولا بد أخيراً من إلقاء نظرة على الغرب وهو يرقب عملية انهيار الجدر التي حصنها وهي تنهار، وكان ذلك لافتاً للانتباه، فقد عجزت دوائر الاستطلاع في الغرب عن استشراف ما يحصل، وسادها الذهول وهي ترقب حركة الجماهير الهادرة تطيح برؤوس الحكم العتيقة التي بناها الغرب خلال عقود، فكانت الحكومة البريطانية في حالة انعقاد دائم وهي ترقب الأحداث التونسية، وكانت الولايات المتحدة تراقب الأحداث في مصر وكأن ذلك في إحدى ولاياتها، فكثرت تصريحاتهم وتعليقاتهم وما أعلنوا عنه من اتصالات مع قوى مصرية، ويفهم من كل ذلك أن الثورة قد خلقت حالة من الذعر لدى الغرب وكذلك لدى اليهود من باب أولى مما هو قادم، بل إن الأحداث الليبية قد فاقمت من ذلك الذعر الذي تم التعبير عنه بمصطلحات الجهاد والإسلام والإمارة الإسلامية القريبة من أوروبا.

وثورة اليقظة الجماهيرية في البلدان العربية خاصة قد عمَقت من حالة العجز التي يعيشها الغرب لا سيما بعد الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان وترنح الغرب للسقوط بفعل الأزمة المالية التي لم تنته ارتداداتها الضاربة. وذلك بتعميق الثورات العربية المخاطر حول المصالح النفطية، ومن ناحية أهم انفتاح الباب على مصراعيه أمام ما يسميه الغرب بالمخاطر الأيديولوجية والمتمثلة ببروز الإسلام السياسي للحكم في البلاد العربية، وما يعنيه ذلك ليس فقط من إنهاء النفوذ الغربي وفقدان المغانم الاستعمارية، وإنما تعاظم المخاطر الإسلامية على أوروبا والغرب عموماً.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق