الأحد، 20 مارس 2011

نفوذ الغرب في بلاد المسلمين

6 نيسان 2008

النفوذ السياسي
وحقيقة النفوذ الغربي في العالم الاسلامي

النفوذ السياسي
إن فكرة الدولة النافذة والمؤثرة في الدول والأمم الأخرى ليست بالفكرة الجديدة التي ابتدعها الغرب، بل هي فكرة قديمة ولكن الغرب الحديث قد توسع فيها بشكل خطير. فقديماً كانت الدولة التي تسعى للسيطرة والتوسع لأهداف مبدئية أو غير مبدئية تقوم بفعل ذلك بنفسها غالباً وإن كانت بعض الدول والامبراطوريات قد اتخذت الاعتماد على الغير استراتيجية لحماية حدود إمبراطوريتها، فالدولة الرومانية كانت تتخذ من الدول الصغيرة حولها أدوات تصارع بها غيرها وكذلك حتى تتلقى هذه الدول الهجوم الأول على الدولة الرمانية من أي دولة تحاول محاربتها. وفي الصين القديمة والحديثة فإن الأعراف والتقاليد السياسية فيها تقتضي بأن تواليها الدول المحيطة بها، ولكن هذا الولاء الذي تقتضيه الأعراف والتقاليد الصينية هو ولاء احترام وتقدير للأمة الصينية وتاريخها يمنع تلك الدول الصغيرة من التفكير في إشعال حرب ضد الشعب الصيني أو التحالف مع أعداء بعيدين. وكانت روسيا القيصرية إبان نهضتها تستعين بالدول الصغيرة المحيطة بها من أجل القضاء على مملكة قازان الاسلامية التي كانت تمثل مركز الخطر في أذهان الروس قبل القضاء عليها منتصف القرن السادس عشر.


 ومجمل القول أن استعانة الدول القوية أو الكبرى بالدول الصغرى فكرة قديمة حديثة، ولكنها في القديم كانت تبقي الكثير من الاستقلال للدول الصغيرة، إذ غالباً ما كان الطموح الى المجد والسيطرة هو دافع الدول الكبرى، فلم تكن دوافعها مبدئية لنشر رسالة لها في العالم. إذ لم يعرف العالم دولاً كبرى مبدئية منذ بعثة محمد عليه السلام سوى الدولة الاسلامية التي كانت تفتح وتتوسع فتضم اليها الشعوب الصغيرة والكبيرة ضماً مباشراً وتصهرها في دين الله صهراً يجعل شعوبها جزءً غير منفصل عن الأمة والدولة الاسلامية، واستمر الحال كذلك في التاريخ حتى برزت الرأسمالية في أوروبا وبعدها الاشتراكية في روسيا فتغيرت مفاهيم السياسة الخارجية لدى الدول الفاعلة تغيراً جذرياً.

ببروز الدول الرأسمالية على أساس قومي في أوروبا فقد تزاوجت المصلحة القومية مع المبدأ الجديد فأصبحت فرنسا دولة وبريطانيا دولة منفصلة وهكذا، إذ لم يتمكن المبدأ الجديد الوليد على الأراضي الأوروبية من إذابة القوميات في أمة واحدة ودولة واحدة، ولكن دول أوروبا وجدت العالم أمامها ضعيفاً بعد أن دب الضعف في الدولة العثمانية وخفت وهج القوة التي تحمل الاسلام على الساحة الدولية فأخذت الدول الأوروبية تتوسع وتستعمر في العالم معترفة لبعضها بالحقوق الاستعمارية، وعلى الرغم من أن التنافس الاستعماري بينها كان يوقفها مرات كثيرة على عتبة الحرب بينها إلا أنها عادةً ما كانت تتقاسم النفوذ والاستعمار في آسيا وأمريكا وأفريقيا، ولكن هذا المبدأ الذي جمع الأمم الأوروبية لم يتمكن كلياً من منع الحروب بين دولها فكانت حروب القارة الأوروبية نوعاً متقدماً في الدمار وشراسة التدمير وكان اشهرها الحربين العالميتين في القرن العشرين.

وبالتدقيق في طبيعة المبدأ الرأسمالي نجد أنه تمكن فعلاً من إعادة رسم المفاهيم الدولية من جديد فصار النفوذ نوعاً جديداً من السيطرة الكلية على الأمم والشعوب الضعيفة، فبعد أن كان الاستعمار المباشر هو السمة الغالبة في المفاهيم الدولية بين الأمم الأوروبية إلا أن نجاح دولة الاتحاد السوفييتي في الدعاية ضد الاستعمار قد هدد المصالح الاستعمارية للدول الأوروبية تهديداً فعلياً، ولكن تلك الدول تمكنت من الاحتيال واستعاضت عن جيوشها بالنفوذ الشامل في مناطق مستعمراتها.

حقيقة النفوذ الغربي في العالم الاسلامي
وبالتدقيق في عملية انتقال الغرب من الاستعمار المباشر في العالم عموماً وفي العالم الاسلامي الذي هو محل نظرنا بشكل خاص الى السيطرة والنفوذ غير العسكري لا بد من ملاحظة مسألتين هامتين:
الأولى: أن الدول الاستعمارية المحتلة عبر العالم قد انقسمت طبيعياً الى دول قوية كبرى ودول ضعيفة صغرى، أما الدول الاستعمارية الصغرى مثل هولندا وبلجيكا والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا وغيرها من أقزام الدول في أوروبا فلم تستطع مقاومة الموجة العالمية المعادية للاستعمار فخرجت من مستعمراتها خروجاً شبه نهائي ولم تعد قادرة على بناء نفوذ لها في الدول التي تركتها بشكل عام، وهذا ناتج عن ضعفها دولياً من ناحية ومن ناحية أخرى فإن الدول المستعمرة الكبرى غالباً ما كانت قادرة على الإحلال مكانها في المستعمرات غير الكثيرة التي أخلتها تلك الدول الصغرى. وأما الدول الاستعمارية الكبرى كبريطانية وفرنسا وألمانيا وروسيا فإنها هي الدول الخطيرة على الساحة الدولية، والأعظم خطراً في موضوعنا “النفوذ” هي بريطانيا وفرنسا. أما روسيا فإنها فضلاً عن أن انقلاب الأوضاع فيها الى الشيوعية قد غير سلوكها الدولي إلا أنه من الجدير التنويه الى أن روسيا القيصرية قد احتلت فنلندا وخرجت منها ولم تبق لها أثراً، وحديثاً فإن روسيا (بعد أن تحولت الاشتراكية فيها لاحقاً الى استعمار) قد خرجت من أفغانستان ولم تبق لها أثراً، وتفككت عنها دول البلطيق الثلاثة وانضمت الى حلف الناتو المعادي لها، وكذلك جورجيا التي تحاول الانضمام الى ذات الحلف، وأما مسألة أوكرانيا ومحاولاتها الانضمام الى الحلف الأطلسي على ما بين الشعبين الروسي والأوكراني من قرابة عرق وإشراك الروس للأوكرانيين في استعمار آسيا الوسطى ومناطق أخرى فإنها مسألة تفتك بروسيا فتكاً شديداً، وكل ذلك لأدلة كافية على أن روسيا الحديثة والقديمة لا تملك أن تبقي لنفسها الكثير من النفوذ والاحترام في البلدان التي يخف عنها ظلها المباشر. وهذا كله يرجع الى عقلية الروس التوسعية التي تقتضي الضم المباشر للأراضي وما يشبه الاستعباد لأهالي المناطق التي احتلتها. وأما ألمانيا فمسألتها مسألة الجغرافيا التي عملت على بناء عقلية الألمان بناءً أوروبياً بالدرجة الأولى، فرغم عظمتها وجنوحها للاستعمار كغيرها من شعوب أوروبا الرأسمالية إلا أن حجم مستعمراتها لم يكن يعبر عن حجمها الحقيقي بين الدول الأوروبية ففاقتها إسبانيا كثيراً في حجم المستعمرات، ولم يكن ذلك ناجماً عن ضعف في ألمانيا أو عن عفة عند ساستها عن الاستعمار. بل السبب في ذلك كان وما زال أن ألمانيا تعتبر مستقبلها إنما يتقرر في أوروبا فقط فهي واقعة بين جارين قويين روسيا وفرنسا، فإذا كان بإمكان روسيا ان تقيم لها سياسة في آسيا بعيدة عن ألمانيا، وكان بمقدور فرنسا أن تقيم لها سياسة في الجنوب مفصولة عن سياستها الألمانية فإن أي سياسة لألمانيا تحتك بشكل مباشر بروسيا في الشرق وفرنسا في الغرب، وبناءً على ذلك فإن أي طريق للعظمة أمام ألمانيا محاصر بالدول الأوروبية العظمى وأي تقدم لها إنما هو مرهون بقضائها على تلك الدول العظمى، فالقوة الألمانية لا يمكنها أن تتعايش مع القوتين الروسية والفرنسية تحديداً وإن كانت تضايقها قوة الإنجليز. وعليه فإن قوة ألمانيا لا يمكنها البروز وتبقى مخنوقة في القارة الأوروبية حتى تتمكن من فتح أحد منافذها الشرقية أو الغربية أو الاثنين معاً وهو ما حاول القيام به هتلر، لكنه فشل في إنجازه.
وبناء على واقع روسيا وألمانيا هذا فإن بريطانيا وفرنسا هما الدولتان اللتان صاغتا بسياستهما العملية فكرة النفوذ الدولي الجديدة، وأما الولايات المتحدة فإنها قد أضافت لتلك لفكرة عناصر جديدة واستخدمت لتحقيقها أدوات جديدة كالتوسع في القروض والهبات.

إذا كان لفرنسا الحق في الافتخار بأنها منبع الثقافة والأفكار الأوروبية الجديدة بانطلاق الثورة منها وأن التغيير والنهضة في أوروبا إنما هو فرنسي المنشأ فإن لبريطانية أن تفتخر كذلك بأن دهائها وسعو حيلتها قد مكنها بشكل شبه دائم بأن تستغل فرنسا وتدفعها الى الحروب من أجل المصالح البريطانية بعد أن تكون بريطانيا قد أقنعتها بوجوب التضحية والحرب، وهذا التعاون التاريخي بينهما قد مكنهما من التعاون من جديد في إعادة صياغة استعمارهما على أسس جديدة. لكن الثقافة الفرنسية لم تسعف أصحابها للنجاة من مكر الإنجليز ودهائهم فكانت الصياغة بريطانية بالدرجة الأولى، وبما أنها كذلك فإن الأعراف والتقاليد البريطانية قد مكنت بريطانيا من أن يكون لها اليد الطولى في عملية إعادة صياغة الاستعمار من جديد. ويخطئ من يظن أن تلك العملية كانت مبادرة بريطانية لأن حقيقتها أنها محاولات للإبقاء على الاستعمار في ظروف التحرر الدولي التي تنشرها الدعاية السوفييتية وتؤيدها أمريكا، فكان الضغط الدولي واتساع نطاق حركات التحرر الوطني المدعومة من موسكو علناً وأمريكا سراً هي حملت بريطانيا على الاعتماد على النفوذ بدل الاستعمار المباشر.
ومن المهم ملاحظته أن ذلك كان بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945م واشتد أثناء الستينات، أي بعد أن استعمرت بريطانيا وفرنسا العالم الاسلامي ما يقارب نصف قرن، وهذه فترة كافية لتلك الدولتين لترسيخ استعمارهما في البلاد الاسلامية، فالقوى المناوئة للاستعمار الغربي عند المسلمين كانت تتمحور في الدولة العثمانية وأما القوى الموالية للاستعمار فكانت هي القوى التي أخرجتها بريطانيا وفرنسا خصوصاً للقتال ضد الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وبما أن الدولة العثمانية قد تم القضاء عليها قضاءً مبرماً فإن القوى الاسلامية المعادية للاستعمار قد هزمت واحتل مكانتها داخلياً تلك القوى المتعاملة مع الاستعمار والتي اعتبرت نفسها منتصرة بانتصار بريطانيا وفرنسا على الاسلام المتمثل في الدولة العثمانية وذلك مثل الثورة العربية في المشرق العربي وكذلك القوى القومية التي عملت بريطانيا وفرنسا على بناء نواتها في الأراضي الاسلامية لا سيما في بيروت واستنبول والقدس ودمشق والقاهرة قبل انتهاء الدولة العثمانية بكثير عبر المدارس التبشيرية التي رعتها الدولتان عبر سياسة الامتيازات القنصلية ورعاية الحقوق النصرانية التي منحتها إياها الدولة العثمانية في أراضيها خلال عقود التخلف والتردي.

وخلال نصف القرن هذا من الاحتلال لا سيما في المناطق العربية فإن القوى الاسلامية الضعيفة أصلاً قد كان مصيرها الذوبان والتلاشي، والحقيقة أن الدولة العثمانية في أواخر عهدها كانت تفتقد حقيقة الى ما يمكنه أن يعيدها بعد هزيمتها فكان حشد رجال الدولة أو السياسيين المسلمين ضعيفاً ومتركزاً في العاصمة استنبول. وفعلياً فإن اليأس قد دب وساد الاستسلام عند هؤلاء السياسيين ولم تنشأ أي حركة تنم عن قيادة فعلية لهؤلاء السياسيين للأمة التي كانت السياسة العثمانية قد أوصلتها الى حالة من التخلف الفكري والبؤس الدنيوي. وفي مثل هذه الظروف فإن القوى الجديدة التي أخذ الاستعمار يمدها بشرايين الحياة قد برزت مثل الحركات القومية والثورة العربية الكبرى وأما في بعض المناطق كمصر فإن فئة الحكم التي تولت الولاية في البلاد أثناء الدولة العثمانية قد بقيت نفسها بعد الاستعمار بتغيير بسيط في الأشخاص الذين سرعان ما قاموا بإيحاء الاستعمار وجيوشه بتبديل القوانين الغربية محل القوانين الشرعية دون أن يعوا عظم الجريمة التي يقترفونها بحق أنفسهم وأمتهم ودينها، وهكذا ساد الظلام بلاد الاسلام وغاب نور الاسلام عن آخر وجود له في القرن العشرين.
وعند ذلك قام الاستعمار بنفسه وبروية تامة بتشكيل الحكم المحلي في المناطق الاسلامية، وبما أن هذا الاستعمار كان يملك كل الوسائل للتغيير لأنه يحتل البلاد والعباد ويسيطر على الأمن وشرايين الاقتصاد فإن الفئة التي برزت باعتبارها فئة النخبة بين أبناء المسلمين التي تطلب الحكم وتنافس عليه كانت هي ذاتها الفئة التي يريدها الاستعمار لتعينه على حكم البلاد، فكانت علاقات هذه النخبة مع الاستعمار علاقة العبد بالسيد وعلاقة الذليل بالقوي المنتصر، وقد ترسخ ذلك عبر نصف قرن فكان جيل من هذه النخبة المستسلمة التي رضعت الفكر الغربي يشيخ ويسلم جيلاً جديداً ويرضعهم حب المستعمرين وولائهم منذ نعومة أظفارهم. وبسبب هذا الواقع الذي صار يتسم بالعراقة (نسبياً) فإن بريطانيا وكذلك فرنسا كانتا مطمئنتين لعملائهما في بلاد المسلمين وكانتا مطمئنتين بأن خروج جيوشها بسبب الموجة العالمية التي أخذ الاتحاد السوفييتي يقودها ضد الاستعمار لن يتسبب في خروج نفوذهما من مناطق المستعمرات وإن كان ذلك غير مضمون في المستقبل المتوسط والبعيد، إلا أنهما قد خرجتا مكرهتين، وليس بإرادتهما ففرنسا مثلاً قد خرجت شر مخرج من الجزائر بسبب تشبثها بهذه البلاد وخرج نفوذها بعد الثورة الجزائرية، ولكن خروج الإنجليز من دويلات الخليج والأردن مثلاً كان خروجاً هادئاً وذكياً بل وبقي مندوبها كلوب باشا وزيراً لدفاع الملك حسين في الأردن حتى الستينات من القرن المنصرم.

ومن المهم كذلك ملاحظته أن سبات الأمة الاسلامية قد استمر دون أن تفيق من غفوتها لا سيما وأن الاستعمار كان قادراً على منع أي عمل إسلامي مخلص من البروز الى السطح، وتأخرت الحركات الاسلامية في البروز، وأصبح العمل السياسي الاسلامي لافتاً للنظر في خمسينات القرن المنصرم فقط، وأما قبل ذلك فقد كان عملاً خجولاً تنقصه الرؤية الواضحة والأهداف الاسلامية الجلية، فالمسألة ليست مسألة إصلاح المجتمع من وجهة النظر الاسلامية إنما المسألة هي غياب الاسلام ووجوب إعادته الى المجتمع بما في ذلك الحكم، وهذه الأهداف لا تؤثر في المجتمع إلا إذا كانت واضحة جلية وتطرح بشكل صريح لا يقبل التأويل، وبغير ذلك لا يمكنها أن تتحول الى قوة دافعة في المجتمع. وفترة السبات تلك قد مكنت الاستعمار من بناء رجالاته المحليين بكل أريحية في غالب المناطق. وأما الثورات المناهضة للاستعمار الغربي كليبيا وفلسطين وغيرها فإن الاستعمار قد تمكن من القضاء عليها بالقضاء على رجالها، ولعل غياب الثقافة الاسلامية النقية قد جعل القضاء على رجالها قضاءً عليها بشكل تام، فلم تكن ثقافة أمة بقدر ما كانت ردة فعل ضد الكافر المستعمر. وعلى أي حال فإن حقبة ما بعد الخمسينات فقط هي التي شهدت بروزاً للعمل الاسلامي والذي ظل يقاوم ويكافح ويتقوى حتى أصبح تياراً قوياً نهاية الثمانينات قبل أن يصبح تياراً جارفاً بداية القرن الحادي والعشرين.

يظن الكثير من الطيبون اليوم بأن هذه الدول القائمة في بلاد الاسلام هي دول حقيقية أو دول مستقلة ويظن أن حكامها يقومون برسم سياستهم بأيديهم، والحقيقة هي غير ذلك تماماً حتى في تلك البلدان التي نشأ الحكم الحديث فيها بانقلابات عسكرية على الأنظمة الموروثة عن حقبة الاستعمار كما في مصر والسودان وليبيا وسوريا وغيرها، وعلى الرغم من أهمية متابعة الأمور التفصيلية في كل بلد إلا أن الهدف هنا ليس القراءة التاريخية وإن ذكرت بعض جوانبها فالأهم في هذا البحث هو إدراك واقع عمل القوى الكبرى في بلاد المسلمين. فمثلاً أن تسلم أمريكا وهي الدولة الأقوى بعد الحرب العالمية الثانية لبريطانيا وفرنسا في مستعمراتهما في البلاد الاسلامية وغير الاسلامية وتستعف هي عن مشاركتها التمتع بالخيرات أمر غير مقبول في الفهم السياسي، فأمريكا قد تولت عن الدول الأوروبية مسألة درء الخطر الشيوعي عنها فقامت ببناء سياستها الرئيسية لاحتواء الأخطار السوفييتية وقامت بإرهاق شعبها من أجل توفير الأموال للتسلح والاستعداد لحرب مفترضة مع الاتحاد السوفييتي، فبعد هذه المسؤوليات الأمريكية هل يقبل عقل سياسي أن أمريكا تسلم لبريطانيا بعوائد النفط من مستعمراتها في الشرق الأوسط، فمن البديهي أن هذا مستحيل.
 ومن البديهي كذلك أن أمريكا ستقوم برعاية قوى أخرى لصراع فئات الحكم التي خلفتها بريطانيا وفرنسا في مستعمراتهما، وقد قامت فعلاً بعد الحرب العالمية الثانية، ونجحت في مصر فقلبت النظام الملكي التابع للنفوذ الإنجليزي، ولأن سياستها كانت تقتضي تغيير الأنظمة الملكية الأخرى في المنطقة التابعة للنفوذ البريطاني فإن ذلك يقتضي إظهار قوة ثورية في المنطقة، فكان ظهور عبد الناصر كبطل قومي يريد تحرير العرب من استبداد الملوك، وحتى لا ينكشف ذلك بأنه عمل ترعاه أمريكا فقد طلبت منه المناداة بالاشتراكية وإيهام الاتحاد السوفييتي بأنه يريد بناء الاشتراكية في مصر والمنطقة، وذلك لما كان يتمتع به الاتحاد السوفييتي بسمعة طيبة في مناهضة الاستعمار، وكان ذلك ضرورياً لأمريكا ونجاح خططها، إذ لا يمكن للسياسة الأمريكية المبنية بشكل أساسي على احتواء الأخطار السوفييتية أن تظهر صراعاً قوياً بينها وبين بريطانيا وهما دولتان متحالفتان ضد الاتحاد السوفييتي بشكل يهدد تحالفهما ويطمع موسكو في شق الحلف، وفعلاً اندفعت موسكو تقدم الدعم لعبد الناصر. وربما يستغرب البعض ذلك بما ترسخ في الذهن من سمو عبد الناصر، ولكن إذا فكر هؤلاء في واقع الولاء الظاهر للسادات لأمريكا وانصياعه غير الخفي لها وطرده لما توهمت موسكو بأنه نفوذ لها من خبراء عسكريين روس، والسادات خلف عبد الناصر، وهما ومعهما حسني مبارك من قادة ثورة الضباط الأحرار سنة 1953م، يدرك بسهولة أن النظام في مصر كان يلبس قناعاً اشتراكياً زمن عبد الناصر وقد خلعه زمت السادات ومبارك، والذي يظن بأن شخصاً ما يمكنه توجيه النظام بأي وجهة شاء وينقلب على كل من حوله فإنه مخطئ تماماً، فالسادات قام بتحويل السياسة المصرية بالكامل في الاتجاه الأمريكي وهذه مهمة يستحيل أن يقوم بها شخص واحد، فطبيعة الحكم أن درجات مختلفة من النظام يردف بعضها بعضاً، فلا يستطيع من يريد التغيير أن يقوم بذلك لوحده دون أن تقف فئات النظام ضده وتسقطه.

ومثلاً نجحت حركة حماس الانتخابات التشريعية سنة 2006م وحققت فوزاً كاسحاً وقامت بتشكيل الوزارة بكاملها، ولم يبق من حكم لرجال السلطة إلا الرئاسة، ولكن المدقق يرى بأن رجال السلطة هم الذين خططوا لتسليم حركة حماس الحكم إسماً لا فعلاً في خطة أوروبية أمريكية ويهودية في محاولة لجر حماس للعمل السياسي بدل العسكري لتأمين دولة يهود. وبقيت حركة حماس في السلطة أكثر من عام دون أن تمتلك حكماً فعلياً على الرغم من انحسار السلطة القديمة وخسارتها الانتخابات خسارة كبيرة وفقدانها للمناصب الوزارية أي أنها قد خسرت بإرادتها وتخطيطها وجعلت ذلك مصدية لغيرها، فخسرت التشريعي ومجلس الوزراء ولكنها لم تخسر الحكم، وهنا يجد المدقق بأن الحكم الفعلي مضبوط في نظام، فهذا النظام تمكن من إحراج حركة حماس بقوة أمام الشعب الفلسطيني في مسألة دفع الرواتب وشد رجاله من خلف ستار من عزيمة المطالب الدولية لحماس بالاعتراف باسرائيل، وشعرت حماس بأن الاعتراف باسرائيل والموافقة على تفاهمات أوسلو هو الذي يكفل لها البقاء في الحكم وإلا يجب أن تغادر طواعية بسبب إنهاك الشعب الفلسطيني اقتصادياً أثناء الحصار المشهور، فنادت حماس بإقامة دولة فلسطينية على أراضي 1967م وهذا ينافي ميثاقها، وجلس زعيمها اسماعيل هنية خلف محمود عباس في مؤتمر القمة العربية في مكة الذي أعاد تبني الوثيقة العربية للسلام بذل. وكادت حماس أن تعلن اعترافها باسرائيل لأن الاعتراف الضمني من حيث الواقع هو اعتراف كالاعتراف الصريح، ولكنها غير قادرة أن تبرر لأتباعها ذلك لشدة مخالفته للإسلام فظلت تتمسك بالاعتراف الضمني غير الصريح القابل للتفسير على وجهين وجه لأتباعها ووجه للغرب. والمسألة لم تنته بسيطرتها على غزة وطردها للسلطة منها إذ هذه مسألة مختلفة تماماً، ونكتفي من هذا المثال بأن النظام السياسي في أي بلد يستحيل على أي شخص أن يغيره، فها هي حركة قد فازت في الانتخابات قد وجدت نفسها في مؤتمر القمة في مكة وفي طرحها لدولة على أراضي 1967م أسيرة للنظام السياسي الذي بنته منظمة التحرير الفلسطينية بالاتفاق مع رئيس الوزراء الاسرائيلي رابين والذي بموجبه تسلمت بعض الأراضي الفلسطينية.

أدوات النفوذ الغربي في المنطقة الاسلامية
وزبدة القول في مسالة النفوذ السياسي الغربي أن الولايات المتحدة قد أصبحت تنافس الدول الأوروبية ذات النفوذ في المنطقة الاسلامية وتصارع رجالها وقد تمكنت فعلاً من قضم الكثير من البلدان من نفوذ بريطانيا وفرنسا، والذي يهمنا هنا هو أن القوى الفاعلة محلياً في المنطقة الاسلامية لا تملك أمرها ولا تستند الى شعوبها، وفلسفتها قائمة على ولاء الأوروبيين أم ولاء أمريكا، بل إنك قلما تجد حاكماً من حكام المسلمين قد غير ولاءه، لأن الدولة الكبرى التي يتعامل معها هي التي مكنت له استلام الحكم وهي التي أمدته بأسباب الحياة. وأما أسباب الحياة السياسية هذه فنأخذها من حياتنا اليومية اليوم دون الرجوع الى الأمس، ويمكن تعداد جزء منها على النحو التالي:
   1.    منح الحكم: وهذا ظاهر غير خفي في البلدان المحتلة، فهل يمكن لسلطة حامد قرضاي أن تعمل ضد أمريكا وهي التي نصبتها على حكم افغانستان، وهل يمكن لحكومة المالكي أن لا تكون أمريكية وقد نصبها الجيش الأمريكي في العراق، وهل يمكن للسلطة الفلسطينية ألا تكون خادمة لأمن اليهود وهم الذين سمحوا لها القدوم ومنحوها الحكم في بعض الضفة وغزة. وهذه أمثلة حديثة، ولكن الشرق الأوسط كله مثل هذه الأمثلة فعندما خرج الاستعمار قد نصب رجالاته في الحكم، والأنظمة التي تغيرت منهم كانت في إطار صراع الدول الكبرى على النفوذ، فمن خرج من نفوذ بريطانيا دخل نفوذ أمريكا وهكذا. فالدولة التي تمنح الحكم تكون فئة الحكام تابعة لها تبعية تامة في العادة.

   2.    وفي الوقت الراهن فإن القوى السياسية إنما تبرزها الانتخابات، وهذه الانتخابات يقررها النظام دون غيره، وبدون البروز في الانتخابات فإن قوة حركة ما يكون مشكوك فيها، فمثلاً كان الرئيس الفلسطيني عرفات يرفض الانتخابات لأن التقارير التي حوله تقول بأن حماس ستفوز، عندها لم يكن بروز حماس كحركة عملاقة كما هو بعد الانتخابات، لكن الأمر دولياً وبموافقة القوى المحلية اقتضى حمل حماس للعمل السياسي بدل العسكري، فكان أن أمدت الانتخابات التي أقرتها دول الاستعمار والسلطة حركة حماس بشريان جديد من الحياة يسمى الشرعية الشعبية أو الانتخابية، وأصبحت حماس تتسلح بالشرعية بقوة لم تكن تمتلكها من قبل. ومثلاً في الانتخابات الايرانية فإن النظام قد رفض معظم قائمة مرشحي المعارضة وحرمهم الترشح، وهذه عملية إقصاء وحرمان لقوى من أن تتمتع بشريان الحياة،  ومثلاً سنة 2005 أراد النظام المصري ان يجمل حكمه المتعفن بالديمقراطية وفق مطالب الادارة الأمريكية فكان لازماً له إدخال حركة الاخوان المسلمين في البرلمان المصري، وكان نظام مبارك يريد للاخوان المسلمين أن يبرزوا كقوة جانبية وليست أساسية في البرلمان فكانت ديمقراطية العصي والخناجر إذ أمر النظام المصري بضرب المصريين الذين تصنفهم أجهزة أمنه على أنهم من أنصار الاخوان، بل وضربت الشرطة المصرية حصاراً على المناطق ذات التأثير القوي لحركة الاخوان وفعلاً منعها الحصار من التنقل والوصول الى صناديق الاقتراع فكانت النتيجة التي أرادها النظام المصري وهي تجميل هذا النظام الصدأ بمعارضة إسلامية.
 والمهم في كل ذلك هذه الأمثلة أن النظام هو الذي يعطي ويمنع وهو الذي يقوم بعملية الضبط لسير الأمور لأن القاعدة تقول بأن المخطط يستحيل أن يخطط سياسة تؤدي الى هلاكه إلا أن يكون جاهلاً وهذا استثناء أو تواجهه أمور لم تكن في الحسبان. وهذه المسألة أي إجراء الانتخابات والسماح لقوى ومرشحين خوضها واحد من شرايين القوة السياسية، وغني عن التعريف هنا بأن القوى السياسية التي تنتظر أن يفتح لها النظام القائم شريان قوة دون أن تكون هي المبادرة والضاغطة لصناعة شريان قوتها وفق طريقتها لن يكون لها مستقبل أبداً في التغيير الحقيقي.
                    
   3.    التمويل: تحتاج مختلف القوى السياسية الى الأموال من أجل الوجود السياسي اللائق، فالدولة تحتاج الى دفع رواتب موظفيها وإقامة المشاريع العامة. وفي الدول كالعالم الاسلامي التي لا يوجد فيها سياسيين حقيقيين في الحكم وإنما خدم للكافر المستعمر الذي أوصلهم للحكم فإن هؤلاء السياسيين الذين يعلمون حقيقة خيانتهم لأمتهم يغلب عليهم الفساد، وإذا ما وجد واحد منهم غير فاسد فهو الاستثناء إذ الأصل فيهم الفساد، ومن ناحية أخرى فإن الدول الكبرى تشعرهم دوماً بالنقص لأنهم أتباع، ومع مرور الزمن فإن عقدة التبعية والشعور بالنقص أمام الأسياد تكون قد ولدت توكلاً طبيعياً وأكيداً على الدول الكبرى. فلا يفكر هؤلاء الساسة المحليون في سياسة إلا ويستشيرون أسيادهم، ولأن أسيادهم يستحيل أن ينصحوهم بما قد يغني بلادهم عن التبعية فإن البلاد تحت حكمهم قد أصبحت غير منتجة وفقيرة مع امتلاكها كل مقومات القوة الاقتصادية، وحتى الدول النفطية ليست دولاً غنية حرةً في التحكم في مواردها، فأغنى دولة في الخليج السعودية قد أصبحت دولة فقيرة مقترضة للأموال بعد حرب الكويت لأن أمريكا قد فرضت عليها دفع تكلفة الحرب وتكاليف بقاء الجيش الأمريكي فيها قبل أن تنقذها الطفرة النفطية الحالية. وفي حال كهذا فإن تمويل الدول الكبرى سواء أكان بشكل مباشر أم كان عن طريق المؤسسات المالية الدولية التي أنشأتها الدول الكبرى كأداة لتكريس نفوذها في العالم هو تمويل كبير لهذه الدول على شكل هبات وقروض. والقروض غالباً ما تفرض فرضاً من أجل إرهاق الدول بفوائد ديونها وبما يضمن تبعيتها الدائمة للدول والمؤسسات الدولية المانحة. فالتحكم بالتمويل هو جزء رئيسي في سياسة فرض النفوذ وإدامته.

وعلى مستوى القوى السياسية خارج الحكم فإن الحركات الجهادية غالباً ما تقع فريسة الاستعمار عن طريق قواه الاقليمية، فشراء السلاح ودفع مرتبات الأسرى ومرتبات للمجاهدين يحتاج الى أموال كثيرة ليس من طبيعتها أن تكون ملكاً للأفراد، فتعرض الدول مساعدتها لهذه الحركات ومع مرور الوقت وشدة الحاجة تصبح هذه الحركات أسيرة في عملها للدول التي تمولها، وليس بالضرورة أن تطلب تلك الدول من مثل هذه الحركات إيقاف أعمالها العسكرية لخفض نفقاتها إذ من شأن ذلك إغناء تلك الحركة عن الحاجة الى تلك الدولة إبعادها عن تأثيرها وعن سياسة من يقف خلف تلك الدولة من دول الاستعمار، بل يصبح حجم الأعمال العسكرية مرتبط بأهداف الاستعمار وتوقيت العمليات العسكرية لخدمة أهدافه. وغالباً ما تقع الحركات الجهادية في فك شروط التمويل الذي يدفعها في كثير من الأحيان الى ما يشبه الانتحار السياسي، وغالباً ما يسقط قادتها الذين يدفع التمويل اليهم في دائرة النفوذ والمحاور التي تبنيها دول الاستعمار الكبرى التي تتحكم في الدول والقوى الاقليمية.
وقد بلغ من عظم تأثير التمويل السياسي أن أحد السياسيين اللبنانيين قد كشف أن بعض الأحزاب اللبنانية تلقت في دفعة واحدة مبلغ 300 مليون دولار، وأن هذه الحركة الطائفية تستخدم هذه الأموال لتوظيف أبناء طائفتها في أشغال كان الأصل في طبيعتها أن تكون أعمالاً للقطاع الخاص وليس الأحزاب السياسية، ولكن درجة التدخل الغربي في شؤون المسلمين قد بلغت الذروة بأن اصبحت لقمة عيش الكثيرين تعتمد على ولاء القوى السياسية التابعة للغرب في منطقتنا الاسلامية، وبطبيعة الحال فإن من شأن ذلك أن يقتل أي روح للتغيير عند من ربطوا أرزاقهم بالتمويل الاستعماري الذي يعتبر الولاء السياسي أهم شرط فيه. وعن منظمات المجتمع المدني حدث ولا حرج، فإن تمويل الدول الاستعمارية لهذه المؤسسات ومشاريعها هو الذي يجعلها قائمة وبدونه لا وجود لها، ومن ارتبط بهذا التمويل من مسؤولي تلك المؤسسات فإنه قد ارتبط بالولاء الاستعماري. وفي فلسطين وفي إطار تمكين العملاء فإن المؤسسات المانحة كالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تقدم الأموال المباشرة لصالح مشاريع مملوكة من أفراد حتى تكون سبب ثروتهم وبالتالي تضمن ولاءهم، ولكن درجة النفوذ الغربي بلغت ذروتها أيضاً عندما صارت أموالها تستخدم من أجل إبراز قيادات مجتمعية من الدرجة الرابعة والخامسة للتأثير في المجتمع في البلاد الاسلامية على مستوى الفكر والسلوك لا سيما فيما يتعلق بالترويج لرفض الزواج المبكر والدعوة لحرية المرأة ودعم مرشحين للانتخابات على مستويات مختلفة بطرق عدة من تدريب وتأهيل ودورات قيادة وتمكين المرأة وغير ذلك من مشاريع التدخل.
وبالتدقيق في وسائل النجاة من فك التمويل فإن الأحزاب السياسية يمكنها أن تتحرك بحرية من أجل أهداف الاسلام إذا رفضت أي تمويل حكومي لأن الحكومات في الظرف الراهن ترفض دفع الأموال من أجل العمل لتحقيق الأهداف الاسلامية الصافية النقية بل وتحارب الدول ذلك حرباً شعواء.

   4.    الاعلام والفضائيات: لا شك في أن كل دولة قادرة على إنشاء جهاز إعلامي لها من صحف وإذاعات ومحطات تلفاز أرضية أو فضائية لأنها تتحكم في مقدرات البلاد، ولكن الأحزاب والقوى المختلفة خارج الحكم لا يمكنها أن تقوم بذلك إلا من خلال موافقة القوى المتحكمة بوسائل الاعلام. ومع بروز الفضائيات فإن الكثير من القوى قد وجدت طريقها للاعلام خارج الأرض التي تعمل فيها للتغيير. ولكن ذلك ليس حلاً، لأن القوى المتحكمة بالاعلام سواء أكانت محلية أم دولية لا يمكنها أن تعطي حزباً ما شريان حياة سياسي إلا أن يكون خادماً بطريقة أو بأخرى لأهدافها، ويخطئ كثيراً من يظن بأن مسألة الاعلام الفضائي مسألة تجارية، إذ أصبح العالم كله قرية واحدة، بل وتزايد تكالب الدول الاستعمارية على بلاد المسلمين وقطعاً فإنها تعمل جهدها لمنع وصول الرأي السياسي المنادي بالتغيير على أساس الاسلام للأمة الاسلامية لما في ذلك من خطر في إعادة صياغة الرأي العام عند المسلمين ضد الكافر المستعمر وأتباعه ومصالحه، فهو أي الاعلام يعطي بثمن.
 وكل من تقوم الفضائيات باستضافتهم بشكل دائم -وليس عرضي- يدفعون الثمن ويقومون بخدمة أصحاب هذه الفضائيات والحكام والدول الكبرى صاحبة النفوذ. وأقل ثمن يمكن دفعه هو توصيل رأي إسلامي محدد دون غيره فتريد مثلاً وسائل الاعلام هذه أن تقول للأمة بانها لا تعادي الاسلام فهي تبث أمور العبادات والأحوال الشخصية ولكنها لا تريد لفت نظر الأمة الى أنها تمنع بشكل مبرم بث الأحكام السياسية في الاسلام التي تبين المسافة الشاسعة بين حكام اليوم والسياسة الاسلامية، وإذا بينت وسائل الاعلام عوار حاكم ما فإن ذلك لأنه لا يسير في فلك تلك الدولة ولا يتبع نفوذها فمن مصلحته أن يبين ما يسيئه، فمثلاً ترى بأن قناة الجزيرة تشير بشكل شبه واضح الى أن مصر هي التي تقوم بفرض الحصار على المسلمين في غزة مع اسرائيل فتقوم بإحراج النظام المصري لأن حاكم قطر يتبع نفوذ دولة غير تلك التي يتبع نفوذها حاكم مصر. وبالمجمل فإن التمكين من وسائل الاعلام ومخاطبة الأمة يعتبر شريان حياة حقيقي للأحزاب السياسية تعرف قيمته القوى التي يحاول الاستعمار وأدواته المتحكمة في الاعلام خنقها وإبعاد رأيها عن الأمة، بل لا تريد للأمة أن تسمع صوتها. فمثلاً بالمسيرات التي قام حزب التحرير في فلسطين بتسييرها حملت كثير من السياسيين للقول بأن هذا الحزب إنما هو قوة ثالثة في فلسطين وينافس القوتين الرئيسيتين، إلا أنك لا تجد قناة الجزيرة مثلاً وغيرها ينقل أخبار الحزب ولا تسأل قادته عند حصول الأحداث بل وتبتعد بشكل متعمد عنهم في الوقت الذي تفتح الأبواب فيها حتى لأصغر القوى على الساحة الفلسطينية التي لا يكاد يراها المجر ليقولوا كلمتهم للأمة، وكل ذلك لأن الفكرة التي ينادي بها حزب التحرير أي إقامة الخلافة الاسلامية تعتبر خطراً على النفوذ الأوروبي كما الأمريكي في المنطقة، بل ويذكر بعض الإعلاميين بأن القيود المتعلقة بحزب التحرير والخلافة الاسلامية تكاد تكون الوحيدة المفروضة في القناة الفضائية التي يعملون فيها.

   5.    ناهيك عن الكثير من شرايين الحياة السياسية الأخرى مثل الاستقبال من زعيم كبير، فمثلاً يعتبر استقبال الرئيس الأمريكي لأي زعيم شريان حياة سياسي لهذا الزعيم وفق المفاهيم الغربية، فملك الأردن ينتظر طويلاً ريثما يسمح له بأخذ الفيزا، بينما يستقبل الرئيس الأمريكي زعماء أحزاب مثل زعيم المجلس الأعلى للثورة الاسلامية عبد العزيز الحكيم وزعيم الحزب الاسلامي طارق الهاشمي من العراق. وكذلك على المستوى الاقليمي فمثلاً بعد أحداث غزة لا يستطيع قادة حماس دخول مصر إلا بصعوبة بالغة، وتتقوى السلطة في رام الله وتفتخر بأن قلة من الرؤساء والملوك العرب الذين يوافقون على استقبال قادة حماس. فالاستقبالات والاجتماعات يعتبرونها ثمناً سياسياً لأمر ما يجب القيام به قبل لقاء هؤلاء الملوك والرؤساء أذناب الاستعمار. وإن كنا لسنا بصدد تبيان أن العمل وفق المفاهيم السياسية السائدة لا يؤدي الى أي تغيير حقيقي وإنما يؤدي الى الانخراط في النظام العام والتأقلم معه وبالتالي استساغته، هذا النظام الذي يجب أن يكون أصل العمل السياسي قد وجد من أجل هدمه وبناء الاسلام ومفاهيم الاسلام مكانه، ولكننا نذكره لوجوده كشريان حياة.
 ومن الشرايين السياسية للدول والحكام إدراجها في أحلاف دولية أو إقليمية، ومن الأعمال التي تقطع شرايين الحياة إشعال حرب على حاكم معين، وذلك أن النظام الذي لا يستند الى أمته يبقى يرجف من أي مخطط ضده لا سيما الحرب لأنه لا يثق بدعم شعبه له وبالتالي يفتقد القوة الحقيقة لدرء أي هجوم. ولتبيان مدى وحقيقة عدم استناد هؤلاء الحكام الى شعوبهم فإن قادة في الجيش العراقي قد قاموا بتسليم بغداد على طبق من ذهب للجيش الأمريكي وتخلوا عن النظام العراقي رغم أنهم كانوا جزءً منه، وبعد الاحتلال فإن مشاركة حزب البعث الذي ضربته أمريكا وأبعدته عن الحكم بالقوة في قتال الاحتلال الأمريكي كانت مشاركة هامشية بعد أن أصبحت المعركة في العراق بين الأمة وبين أمريكا وبرزت الحركات الاسلامية التي كان النظام العراقي يمنعها برزت في قتال عنيد ضد الجيش الأمريكي قد أنساه كل انتصاراته على جيش صدام.      

وبالمجمل فإن لقوى الاستعمار ادوات كثيرة للنفوذ فهو يمسك بأوراق الأمة الاسلامية بشكل كبير، وهذه الأدوات كفيلة حتى الآن بأن تبقي له وجود ونفوذ كبيرين في الأمة الاسلامية ويستطيع من خلال هذه الأدوات أن يمنع أي حركة مخلصة من التغيير الحقيقي في سبيل الله بعيداً عن خططه، ولكن سنن الله تعالى تقتضي أن يكافح المسلم الكفر ويصارعه حتى يكون للفوز بالجنة معنى، فكانت سننه “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، وهذا يقتضي أن التغيير يكون قريباً أي طرد نفوذ الاستعمار الأوروبي والأمريكي عندما ينضج في الأمة حشد يأخذ بيدها ويرشده الله الوعي فتتيسر أمامه الطريق الى مفاتيح التغيير في المجتمع.

والمسألة الثانية في واقع النفوذ الغربي عند المسلمين هي أن المنطقة الاسلامية كانت مزرعة للمستعمر الغربي بموجب احتلاله المباشر لها، وقبل ان يقر الاتحاد السوفييتي بذلك بموجب الوفاق مع الولايات المتحدة بداية الستينات كانت قوى المعارضة الأبرز لهذه الأنظمة التابعة للغرب تشكلها أحزاب اليسار والأحزاب الشيوعية وكانت تخطط بالتعاون مع روسيا لربط المنطقة بموسكو بدل ارتباطها بالغرب الاستعماري، ولو نجح ذلك لتم استبدال استعمار رأسمالي باستعمار اشتراكي، وما كان بالامكان أبداً أن يكون حال المسلمين أفضل من رومانيا وبلغاريا المتخلفتين اللتين خضعتا للنفوذ الروسي، ولكان رفض المسلمين للاشتراكية أشد من رفض أوروبا الشرقية لها التي لفظتها سرعان ما انهار الستار الحديدي الذي فرضته موسكو. وهذا لم يتم في العالم الاسلامي، وانهارت الشيوعية في مهدها روسيا وتتالت الانهيارات في أوروبا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفييتي، وقد انهارت تبعاً لذلك الأحزاب الشيوعية واليسارية في العالم الاسلامي وهي المسألة المهمة وأصبح الكثير من أعضائها دماء جديدة في قوة الاسلام في المنطقة، وما أن انتهى عقد التسعينات من القرن المنصرم وهو عقد تصفية تبعات غياب الاتحاد السوفييتي حتى انقشع الجليد في العالم الاسلامي عن قوة جارفة للتيار الاسلامي المنادي بالتغير، وما أصبحت تعقد انتخابات في أي بلد من بلدان المسلمين حتى تكشف الأمة عن نوايا الانقلاب عن النظام الحاكم والحزب الحاكم فتصوت لأي حركة اسلامية تخوض الانتخابات، وبالمجمل فقد رسم القرن الحادي والعشرون صورة واضحة للصراع في المنطقة، فقوى الاستعمار المحلية قد انحسرت بشكل شديد وأصبح الحكم هو كيانها الوحيد المتبقي في المنطقة فتمترست فيه بقايا القوى العلمانية، وظهرت القوى الاسلامية بشكل أرهب الكفار. وازدات الرهبة من الاسلام بع فشل الحروب الأمريكية فعندما ظنت أمريكا أنها باحتلال أفغانستان قد أرهبت الحركات الاسلامية فإذا بهذه الحركات تتشكل بعد أن لم تكن في العراق وأخذت تخوض صراعاً دموياً لا يعرف للشهداء عدداً، وعادت أفغانستان بعد ذلك تسخن من جديد وتهدد بشق حلف الأطلسي الذي تتخوف الدول الأوروبية فيه بإثارة المزيد من عداء المسلمين بسببه، وتبحث لنفسها عن مخرج يقيها الارتباط الكامل بسياسة الولايات المتحدة التي تثير نقمة المسلمين.

وفي النهاية فإن في التاريخ لعبرة، فلا يمكن لنفوذ أن يدوم، فأمريكا نفسها كانت فريسة للاستعمار الأوروبي ويفترض أن هذا الاستعمار قد ترك بعض أذنابه هناك، لكن شدة التيار الذي قاد استقلال الولايات المتحدة قد جعل تلك البلاد أكبر وأهم دولة ما يزيد عن سبعين عاماً، وعلى الرغم من تحول أمريكا نفسها الى دولة استعمارية أشد شراسة من الدول الأوروبية وأن أي أمل لم يعقد عليها في تخليص العالم من الاستعمار الأوروبي إلا أنه مثال بأن الظلم والنفوذ لا يدومان. وإذا كان مثال التحرر الأمريكي قد نقل العالم من ظلم الى ظلم أشد فإن المسلمين الذين لا ينتظرون أي دولة كبرى أو صغرى لتحررهم من نفوذ الاستعمار يحسون بشكل متزايد بفعالية السلاح الذي يملكون وهو سلاح العقيدة الاسلامية أو ما يسميه الغرب بالعامل الأيديولوجي، ويرون بأن الأمور قد أخذت مداها وأن تيار الاسلام بشكل عام قد أخذ طريقه نحو النصر الأكيد، وأن هذا التيار تزداد نصاعة ووضوح الاسلام فيه وأن أي انحراف وأي ميل لم يعد يمكنه منع الاسلام من الرجوع الى ما كان، دين عظيم في أمة عظيمة تستحقه وفي دولة عظيمة تقيمه هي دولة الخلافة الاسلامية دولة راشدة على منهاج نبيها محمد صلى الله عليه وسلم.        
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق