الأحد، 20 مارس 2011

الأعراف والتقاليد السياسية في روسيا

هذا المقال هو أحد موضوعات كتابي الجديد تحت عنوان "السياسة الروسية" سيصدر بإذن الله قريباً
أنشره لما به من فائدة إنشاء الله في مراقبة الأحوال الداخلية للدول المستعمرة والطامعة في بلاد المسلمين



بعد منتصف القرن السادس عشر أخذت الأعراف والتقاليد السياسية بالتشكل في روسيا، ومع بداية القرن العشرين كانت هذه الأعراف قد ترسخت لدرجة أن الدولة الشيوعية الفتية بالاضافة الى أنها لم تستطع إضافة مفاهيمٍ جديدةٍ للعقلية السياسية الروسية، قد وجدت نفسها مكبلةً بالتقاليد السياسية التي رسختها العقود والقرون في أذهان الروس، فلم تجد طريقاً إلا بتسمية الأسماء بغير مسمياتها لتتوافق مصالح الشيوعية مع المصالح القومية الروسية.

   وأول الأعراف والتقاليد السياسية عند الروس هو الاستعمار، فروسيا دولة استعمارية شعباً وحكاما،ً وذلك أن روسيا قد خضعت للاضطهاد الاستعماري المغولي من القرن الثالث عشر وحتى القرن الخامس عشر، وذاقت خلال هذه الفترة الطويلة آلاماً كثيرةً، حتى أنها عندما استطاعت التخلص من الاستعمار بدأت بالثأر بعد أن وحدت إماراتها المتشتتة، وكانت تنتصر مرة وتنهزم أخرى في حروبها التاريخية الطويلة مع المسلمين التتار، حتى تحقق للقيصر الروسي إيفان غروزني النصر الكبير واحتلال مملكة قازان الاسلامية سنة 1552 في حوض الفولغا. ولما كانت هذه المملكة هي القوة الاقليمية في الشمال، فإن زوالها بالاضافة الى الهيبة الكبيرة التي منحها للجيش الروسي المتعاظم في المنطقة، قد فتح الباب الشرقي على مصراعيه أمام أحلام وأطماع القياصرة الروس، ليبدأ فيما بعد عهد جديد من الفتوحات والغزوات الروسية الظافرة، حتى أنه لم ينقض عقد من الزمان إلا وأضافت روسيا الى حدودها إقليماً أو أقاليم جديدة في الشرق، وظلت تتقدم شمالاً وشرقاً إلى أن استوقفتها البحار والمحيطات في الشمال وفي الشرق على مقربة من اليابان.
   ولما لم يكن بمقدور الدولة القيصرية الفتية مواجهة جبروت الدولة العثمانية فإن المناطق الاسلامية الخصبة في القفقاز وآسيا الوسطى ظلت مغلقةً أمام الغزاة الروس الى أن ابتدأت انتكاسة الضعف العثمانية والتي لم تغتمها روسيا مبكراً، حتى صارت الدول الاستعمارية الأخرى تقتطع من أطراف الدولة العثمانية، فتجرأت بعدها روسيا على الدولة العثمانية سنة 1783 في معارك القرم الظافرة للجيش الروسي، فصارت روسيا بعدها تقضم شيئاً فشيئاً من الولايات الاسلامية في القفقاز وفي آسيا الوسطى حتى كادت مع نهاية القرن التاسع عشر تصل الى المحيط الهندي. وكذلك كان الاستعمار الروسي في الأراضي الصينية الشمالية مستغلةً الضعف التاريخي الذي دب في المملكة الصينية.
   كانت المفاهيم الاستعمارية الروسية تقتضي ضم الأقاليم المستعمرة للدولة الروسية ضماً مباشراً، وكانت ترفض اقتسام الغنائم مع أحد، ولما حكم الحزب الشيوعي موسكو وأخذ ينادي بالتخلص من الاستعمار، حور الروس هذه المفاهيم المبدئية الجديدة في بوتقة المصالح القومية الروسية، فلم تستطع موسكو الضم المباشر للبلدان الأوروبية التي استولت عليها في الحرب العالمية الثانية، ولكنها فرضت عليها نظامها الشيوعي وأبقت فيها فرق الجيش الروسي لمنع الدول الأوروبية الكبرى والولايات المتحدة من اقتسام الغنيمة معها، وكانت تتدخل في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ فيها مع أنها أطلقت عليها زوراً وبهتاناً اسم الدول المستقلة.
   فالاستعمار والنفعية هي أعرق المفاهيم الروسية لا فرق في ذلك بين مستوى الأعمال السياسية التي تقوم بها الدولة وبين المستوى الشعبي البسيط، ولم يتحلحل هذا المفهوم قيد أنملةٍ بفعل الحكم الشيوعي، لأن الغالبية العظمى من سياسي الحقبة الشيوعية كانت من الذين لم تتأصل فيهم الناحية الشيوعية المبدئية. ولعل سعة مساحة روسيا والتي هي النتيجة الأولى للاستعمار كانت ولا تزال أحد وأقوى منابت الشعور بالعظمة عند الروس.

   والشعور القومي هو جزء لا يتجزأ من الشخصية السياسية لروسيا، وذلك أن النضال الروسي ضد الاحتلال المغولي قد أخذ الصبغة القومية، ومن أجل ذلك تكللت الجهود الروسية لتوحيد كافة الممالك الروسية في دولةٍ مركزيةٍ بالنجاح، ولما أخذت روسيا تحتل أقاليم القوميات الصغيرة وشاهدت الحاجة الملحة عندها لثروات هذه القوميات تعززت الروابط القومية بين الشعب الروسي ليكون الروس قوةً واحدةً ضد هذه القوميات، وعندما حكم الحزب الشيوعي روسيا لم يستطع أن يقضي على المشاعر القومية التي كانت قد أوصلتها الانتصارات القيصرية الى عنان السماء لا سيما بعد دحر الجيش الروسي للحملة النابليونية سنة 1812، ولما كان الشعور القومي عائقاً أمام الأممية العالمية وأمام اتحاد عمال العالم حولت الشيوعية القومية وأسمتها وطنية، وكان ذلك في غاية الضرورة داخل الاتحاد السوفييتي حتى تشعر القوميات الأخرى بالتغيير وتندفع في خدمة الدولة.
   ولكن ذلك لم يكن قضاءً حقيقياً على القومية الروسية من أذهان الروس، فاستمر الحزب الشيوعي على سياسة تسويد العنصر الروسي واعتباره معلم الشيوعية ومؤسس الصناعة ورافع راية التقدم والقيادة وما على الشعوب السوفييتية الأخرى إلا تقليده واللحاق به، فلم يتآخ الشعب الروسي مؤاخاة حقيقيةً مع الشعوب الأخرى، وما دفع القيادة الروسية للجيش الأحمر بفرقٍ قوميةٍ أوزبكيةٍ وغيرها لتحارب في مقدمة الحرب بالعصي والفؤوس ضد الجيوش الألمانية في الحرب العالمية الثانية إلا مؤشراً على أن الشيوعية لم تقض على التعالي والفوقية في التعامل مع القوميات السوفييتية الأخرى. وكانت السياسة الداخلية للدولة الشيوعية مثالاً حياً على عدم الجدية عند موسكو في تطوير كافة المناطق السوفييتية وأن سياسةً انتقائيةً ظاهرةً كانت هي المتبعة في تطوير المناطق الروسية وإقامة الصناعات الكبرى فيها على حساب القوميات الأخرى وثروات بلادها. وكان الشعب الروسي الذي حقق الانتصار التاريخي على النازية الألمانية يدافع عن وجوده كأمةٍ عظمى، ولم يكن الدافع المبدئي الشيوعي إلا عاملاً ثانوياً عند الروس وشعاراً لا بد من رفعه لدفع الشعوب الأخرى للحرب الى جانب الروس ضد الجيوش الألمانية.
   وعلى ذلك فإن الشعور القومي قد تأصل عند الروس حتى صار الاعتزاز بالقومية جزءاً لا يتجزأ من التركيبة النفسية للشعب الروسي، وما عودة القومية الروسية بوجهها الصريح العفن تخيم على الشخصية الروسية بعد انهيار الشيوعية إلا دليلاً فاضحاً على أن الشيوعية كانت تخبئ هذا الشعور بعباءةٍ من قشٍ سرعان ما تطايرت بعد أن هزتها اصلاحات غورباتشوف، فاستجاب الروس للسيمفونية القومية الصريحة التي عزفها يلتسن ورأوا فيه زعيماً قومياً وأعادوا انتخابه مرة أخرى سنة 1996 على الرغم من الدمار الاقتصادي الذي حل بالدولة الروسية بفعل سياسات الصدمة التي انتهجها يلتسن.

   وأما مسؤولية الشعب الروسي عن باقي الشعوب السلافية فإنها من الأعراف السياسية القديمة في روسيا، بدأت حينما رأت روسيا نفسها أكبر وأقوى الشعوب السلافية وتوطدت دعائمها حينما انتقل مركز الكنيسة الأرثوذكسية الى موسكو بعد فتح المسلمين للقسطنطينية (اسطنبول) التي كانت مركزاً للأرثوذكسية، وتعتبر غالبية الشعوب السلافية في شرق أوروبا من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية. رأت روسيا أن مسئوليتها عن هذه الشعوب في شرق أوروبا تجلب لها منافع استعمارية في هذه الأقاليم، فاشتهر شعار الأخ الأكبر وأعلنت روسيا نفسها حاميةً للعرق السلافي في شرق أوروبا وحاميةً للكنيسة الأرثوذكسية، وبهذا حملت روسيا نفسها رسالةً مضمونها العرق والدين في أوروبا الشرقية.
   ولكن الغزوات النابليونية في بداية القرن التاسع عشر وكذلك الغزوة الألمانية الكبرى سنة 1941 قد جعلتا روسيا تنظر الى هذه المنطقة في أوروبا فوق ما ذكر نظرةً أمنيةً بالدرجة الأولى، فصارت ترى فيها عازلاً بينها وبين القوى الأوروبية الكبرى، فركزت سياستها فيها وضمت أجزاءً منها الى روسيا كذراعٍ متقدمٍ للجيش الروسي ومركزٍ للإنذار والمراقبة، ولا تزال محافظة كاليننغراد الألمانية أرضاً روسيةً حتى بعد انفصال وتفكك الجمهوريات الأخرى عن روسيا، ولا يمكن لروسيا أن تتخلى عن هذه المنطقة ذات الحيوية الشديدة لأمنها إلا إذا أجبرت على ذلك أو أصبح تخليها عنها نتيجةً طبيعيةً لأخطاءٍ استراتيجيةٍ كما حصل بفعل سياسات غورباتشوف.
   وتعتبر روسيا اليوم أن الخطر الاستراتيجي الأول على أمنها هو تقدم حلف الأطلسي وآلته العسكرية في عمق أوروبا الشرقية واقترابه من الحدود الروسية، وتتخوف روسيا من أن يتقدم حلف الأطلسي للتدخل في البؤر الكثيرة المتوترة في الدول الناشئة عن تفكك الاتحاد السوفييتي بل وداخل روسيا نفسها، بعد أن رأت روسيا تقدم الآلة العسكرية الأطلسية لفرض الإرادة الأمريكية على يوغوسلافيا في البوسنة والهرسك وفي مقدونيا وفي اقليم كوسوفو داخل صربيا نفسها.
   لهذا كله فإن تفعيل مسئولية الشعب الروسي عند الشعوب السلافية الأخرى هي حاجة ملحة للسياسة الروسية وكانت ولا تزال تلقى استجابةً سريعةً عند الشعب الروسي، وما المظاهرات والشعور المعادي للولايات المتحدة في روسيا أثناء حرب كوسوفو إلا مؤشر على ذلك، ولكن هذه المسؤولية تقتضي من روسيا أن تقدم لهذه الشعوب ما لا تملكه روسيا من امكانياتٍ للوقوف أمام الهجمة الاستعمارية الحديثة للولايات المتحدة خاصةً والغرب عامةً في أوروبا الشرقية.

   وعلى صعيد الحكم فإن استبدادية الحكام هي صفةً ملاصقةً للروس وجزء لا يتجزأ من الحياة السياسية الروسية مهما رفعت شعارات الحرية والديموقراطية.
   وذلك أن روسيا ولدت دولةً قيصريةً وحققت الإنجازات الكبرى للشعب الروسي مما صقل عقلية الشعب الروسي بالتسليم للقياصرة والانقياد خلفهم عن طواعيةٍ على اعتبار أن هؤلاء القياصرة يدفعون بطاقات الشعب الروسي نحو الانتصارات العظمى، فكان القياصرة والذين داوموا على علاقةٍ وثيقةٍ مع الكنيسة الأرثوذكسية لإطفاء صبغة الشرعية الإلهية على حكمهم، كانوا يسيّرون دفة الحكم دونما اعتبارٍ أو رجوعٍ للشعب الروسي وممثليه، وكان القياصرة واثقين بأن الشعب لا محالة داعم لسياساتهم، وهكذا بقي الوضع حتى مطلع القرن العشرين.
   لم يكن وارداً عند قادة الحزب الشيوعي الروسي تبديل الاستبدادية في الحكم لأنهم حملوا في ثناياهم مفاهيم الحكم الروسية القديمة، وزادوا عليها بايديولوجيةٍ لدعم هذه المفاهيم، فكتموا أنفاس المعارضة، بل وقضوا عليها قضاءً مبرماً، وقد ضرب الحزب الشيوعي في روسيا أمثلةً هي في غاية القسوة والوحشية والاستبداد ضد كل من وقع تحت حكمهم وضد الشعب الروسي كذلك، فأدى بذلك الى زيادة تعميق الاستبدادية في روسيا.
   ويخطئ من يظن أن تخلي روسيا الاتحادية اليوم عن الشيوعية واعتناقها للرأسمالية ومناداتها بالديموقراطية قد غير شيئاً من استبدادية الحكم فيها، فكان يلتسن يمارس نفس الطريقة التي مارسها سابقوه وإن لم يظهر عليها مظاهر التقتيل الجماعي للمعارضين كما مارسها ستالين مثلاً، ولا ينتظر من بوتين أن تغير فترة حكمه شيئاً من هذا، بل إن قدومه الى الكريملين وانتخاب الروس له على أساس برنامج حربه ضد الشعب الصغير في الشيشان ليدلل ليس فقط على أن بوتين قد وصل بناءً على شعارات العربدة والبلطجة التي رفعها أثناء رئاسته للوزراء، بعد أن صوّر بآرائه الاستبدادية أن الشيشان هم سبب الأمراض التي تعاني منها روسيا فغابت آراء العقلاء أمام علو صراخه، بل وتدل كذلك على أن الحاكم كلما كان متجبراً أكثر كلما نال اعجاب الشعب الروسي بشكلٍ أفضلٍ.
  
    أصبح مفهوم القوة العسكرية طاغياً على كل الاعتبارات الأخرى في روسيا، وذلك أن الحروب والانتصارات العسكرية البحتة هي التي رفعت من شأن الدولة الروسية، بدءاً بنضالها العسكري ضد الاحتلال المغولي ومروراً بقضائها العسكري على الممالك المحيطة بها واستعمارها، فلم تنقل روسيا للشعوب التي احتلتها شيئاً باستثناء جيوشها، فلم تغرس فيهم ثقافةً ما، ولم تمنحهم طريقة عيشٍ أفضل من طريقتهم. وقد تجاهلت روسيا عبر التاريخ جوانب حياتها الاقتصادية والديبلوماسية ناهيك عن الجوانب الثقافية، ولم تتمكن من التأثير الإقليمي إلا بعصا الاعتبارات العسكرية البحتة، وعلى الرغم من أن الجانب العسكري كان يحظى بنصيبٍ وافرٍ عند باقي الأمم، إلا أن الروس لم يطوروا أدوات أخرى غير الأداة العسكرية في العصر الحديث، وقد اشتهروا بفقدان الحنكة السياسية مما أوقعهم مراراً في شباك الفخاخ السياسية الكبرى التي حاكتها ضدهم الحنكة الديبلوماسية الإنجليزية أحياناً والأمريكية أحياناً أخرى على الرغم من وصول روسيا الى ذروة القوة العسكرية.
   ولا شك أن الانتصار الروسي الكبير ضد الغزوة النابليونية قد عمّق هذا المفهوم، وكذلك الانتصار العظيم على الجيوش الألمانية في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن بإمكان الحكم الشيوعي تبديل هذا المفهوم العميق في العقلية السياسية الروسية لدرجة أن الدولة الشيوعية قد اندفعت في سباق الولايات المتحدة عسكرياً تاركةً خلف أسوارها أمراضاً صعبةً دونما علاج، واستمرت في هدر طاقاتها في خدمة الجانب العسكري حتى انهار اقتصادها، فأخذت تستغيث بالدول الغربية أعداء شيوعيتها من أجل علاج أمراضها المزمنة، حتى أن الدولة قد وقفت على حافة المجاعة الحقيقية مع بداية تسعينيات القرن العشرين، ولكنها ورغم كل ذلك ورغم الاضطرابات العمالية التي تعصف بها موجةً بعد موجةٍ على خلفية عدم قدرة الخزينة الروسية على الايفاء بالتزاماتها لا تزال تنفق المليارات الطائلة من الدولارات على جيوشها ومؤسسة الصناعة العسكرية فيها.
 والناحية العسكرية في التفكير الروسي لها ميزتان لا بد من إدراك واقعهما:     
 الأولى: أن روسيا لا تقاتل عدواً قوياً أبداً إلا حرباً دفاعيةً، فهي ومنذ فجر تاريخها لم تهاجم عدوها القوي إلا بعد التأكد من ضعفه عسكرياً، والشذوذ عن هذه القاعدة كانت معارك بورت آرثر سنة 1904 مع اليابان، حيث كانت اليابان قد صارت قوةً يحسب حسابها في الشرق الأقصى فمنيت روسيا في تلك المعارك بهزيمةٍ نكراء.
   فقد كانت روسيا القيصرية تتوسع شرقاً وشمالاً قبل القرن التاسع عشر هروباً من جبروت الدولة العثمانية مع الحاجة الملحة للروس لاحتلال الأراضي الخصبة في مقاطعات الدولة العثمانية القريبة من روسيا، ومنيت الجيوش الروسية بالهزيمة النكراء سنة 1854 في حرب القرم على الرغم من أنها كانت تدافع عن نفسها أمام الغزاة الإنجليز والفرنسيين، ومنيت بالهزيمة كذلك على أيدي الجيوش الألمانية رغم اشتراكها مع الحلفاء في حرب ألمانيا في الحرب العالمية الأولى قبل أن يتمكن الحزب الشيوعي من إخراج روسيا من هذه الحرب، وظهرت نتائج هذه الهزيمة في الشروط الصعبة التي فرضتها برلين في مفاوضاتها مع روسيا الشيوعية قبل سقوط ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ولا يمكن لروسيا نسيان المرارة التي ذاقتها من قوات هتلر على الأراضي الروسية لمدة ثلاث سنوات قبل أن ينعكس المؤشر العسكري لصالح الاتحاد السوفييتي ضد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية.  
  
  وكل هذه الحروب باستثناء الحرب الروسية اليابانية كان الروس فيها في موقع المدافع عن النفس، ومعنى ذلك أن روسيا تفتقد الإرادة الحقيقية في استخدام قوتها العسكرية ضد أعدائها الأقوياء. وقد تأصل ذلك الخوف من القوى الكبرى عند السياسيين الروس بعد أن توارثوه حاكماً عن حاكم، حتى أن الولايات المتحدة عندما تنبهت الى جانب الضعف هذا عند الروس أخذت تبتز الاتحاد السوفييتي تارةً وتسير مصالحها الدولية دونما اكتراثٍ بروسيا ومصالحها تارةً أخرى، ولم تستطع روسيا التعامل بالمثل مع الولايات المتحدة على الرغم من قدرة روسيا عسكرياً على تهديد الولايات المتحدة تهديداً حقيقياً، ولكن الولايات المتحدة شاهدت تهالك السوفييت على الوفاق ومن ثم المطالبة بتنفيذ ما إتفق عليه، أي أن الولايات المتحدة قد شاهدت الآلة العسكرية الروسية في موقع الدفاع ورأت كذلك ضعف الإرادة الروسية في تفعيل آلتها العسكرية في خدمة المصالح الروسية.
   استغلت الولايات المتحدة نقطة الضعف الروسية هذه حتى تمكنت من تجفيف الينابيع الاقتصادية والاجتماعية في روسيا التي تروي الآلة العسكرية وتمدها بالعظمة، حتى كان لواشنطن ما شاءت من استسلام روسيا من الحلبة الدولية عائدةً الى حلبةٍ اقليميةٍ أو داخلية.  ولكن العقلية الروسية لا تبالي في استخدام آلتها العسكرية مع الأمم الضعيفة، ولا يعتبر دخول الحرب مع دولةٍ صغيرةٍ قراراً صعباً في موسكو، ومن ذلك الاجتياح السوفييتي لهنغاريا ولتشيكوسلوفاكية وأفغانستان وكذلك الحربان الروسيتان في الشيشان، فهذه شعوب صغيرة لا يحسب حسابها.
   وانتصار روسيا على الدول العظمى كما في الحروب النابليونية وحرب ألمانيا النازية لم تكشف عن شجاعةٍ منقطعة النظير عند الروس، لأن روسيا كانت واحدةً من كثيرٍ من الدول الكبرى الأوروبية والولايات المتحدة التي حاربت ضد هذه القوى المتهورة، بالإضافة الى أن هذه الانتصارات الروسية كانت على الأرض الروسية من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كان امتداد القوات الروسية الى واترلو وبرلين بموافقة الدول الكبرى ولو اضطرارياً كما كان بعد الحرب العالمية الثانية.
   اندفع الروس بالعواطف القومية والوطنية للدفاع بشراسةٍ عن الأرض الروسية في تلك الحروب، ولكن المقاتلين الشيشان والذين قاوموا بطش الآلة العسكرية الروسية مقاومةً مصحوبةً بدعايةٍ شديدةٍ قد شككت الجنود الروس في انتماء الأراضي الشيشانية الى روسيا الاتحادية، ففقد هؤلاء الجنود الشراسة القتالية وظهر الجبن حتى انهزم الجيش الروسي سنة 1996 هزيمةً مذلةً فوق الأراضي التي يزعم السياسيون الروس أنها لروسيا، والجزء الأعظم من أراضي روسيا الاتحادية اليوم ليست أرضاً روسيةً،ويمكن لدعايةٍ قويةٍ موجهةٍ في اتجاه كشف الحقائق التاريخية أن تعمل عملاً هائلاً في اضعاف الجيوش الروسية، فتتكرر الأحداث الشيشانية سنة 1996 في أقاليم قومية أخرى داخل روسيا الاتحادية.
 والثانية: هي وحشية الحروب الروسية، وذلك أن الروس لا يعرفون أدباً ولا أخلاقاً في أعمالهم العسكرية، وقد بدأ ذلك ملازماً لحروبهم منذ فجر التاريخ الروسي، عندما احتل الروس مملكة قازان وذبّحوا المسلمين الأبرياء وهدّموا المساجد وأجبروا سبعمائة ألف مسلمة على الزواج قسراً من الروس، ومارس الروس أعمالهم العسكرية هذه في كل حروبهم فقد حرّقوا وقتّلوا وهدّموا في أفغانستان حتى غدت الكثير من القرى أثراً بعد عين، ودمار مدينة غروزني الشيشانية شاهد حديث على أن الجيش الروسي لم يغير ولم يبدل في أخلاقه العسكرية.  

   وتعتبر فكرة الخوف والحذر من أوروبا عرفاً سياسياً في روسيا يتناقله كل جيلٍ من الحكام عن الجيل الذي سبقه، ومنابت هذه الفكرة الاعتراف الروسي بالسبق المدني والحضاري للشعوب الأوروبية أي للإنجليز وللفرنسيين وللألمان، وهذا يجعل الروس يقرون بأن روسيا في الدرجة الثانية ثقافياً، وكان يمكن لهذه الفكرة أن تبقى عند حد المعلم والتلميذ لو لم يبدأ "المعلم" أي الشعوب الأوروبية بغزو الأراضي الروسية في الحروب النابليونية، بالاضافة الى توسع الطموحات الاستعمارية للدول الكبرى بما فيها روسيا في أراضي الدولة العثمانية والمملكة الصينية ما جعل اصطدام مصالح هذه الدول الاستعمارية أمراً  لا مناص منه.
   ويزيد من حدة هذا الخوف والحذر في روسيا أن الدول العريقة في أوروبا لم يسرها صعود العملاق الروسي الحديث، وقد رفضت هذه الدول الكبرى بما ترسخ عندها من المفاهيم اتجاه روسيا دخول روسيا الى المعادلة الأوروبية، فحاكت ضدها الكثير من المكائد عندما أخذت روسيا تتدخل في شؤون الدولة العثمانية بعد أن أضحت هذه الأخيرة هزيلةً، فرفضت هذه الدول اقتسام الغنيمة مع روسيا مع أنها تقتسمها فيما بينها، وشنت بريطانية حرباً شعواء بعد أن جرّت فرنسا لجانبها ضد الوجود الروسي في البحر الأسود وحطمت الدولتان القلاع والاسطول الروسي تحطيماً كاملاً فيما عرف بحرب القرم سنة 1854، ولما حكم الحزب الشيوعي موسكو وأخذ ينادي بهدم الأنظمة الرأسمالية العتيدة في أوروبا ويناصر الحركات الشيوعية في هذه الدول ازدادت الدول الأوروبية عداءً لروسيا وتوسعت الهوة بين القارة الأوروبية والقارة الروسية وجعلت من مسألة إدخال روسيا مستقبلاً كجزءٍ من المعادلة الداخلية لأوروبا أمراً  في غاية العسر، حتى بعد أن تنكرت روسيا للشيوعية ولفظتها من حياتها السياسية، ولعل دعم الكثير من الدول الأوروبية للولايات المتحدة في مسألة توسيع حلف شمال الأطلسي في وسط أوروبا وشرقها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي إلا رسالةً قاهرةً للروس بأن الأوروبيين لا يقبلون بجارتهم القريبة روسيا والتي لا يزالون ينظرون اليها باعتبارها امبراطورية شر في الوقت الذي يقبلون فيه بصديقٍ وشريكٍ آخرٍ من خلف المحيطات.
   وقد كان بروز روسيا في القرن العشرين كقوة كبرى من الدرجة الأولى وما تبعه من ازدياد احتكاكها بالقوى الدولية الكبرى عاملاً حاسماً في تحديد النظرة الروسية لأوروبا، فصارت واضحةً لا لبس فيها ومحورها الأول الخوف الأبدي من ألمانيا، بينما تراقب عينها اليسرى الإنجليز بحذرٍ دائمٍ خاصةً بعد أفول نجم فرنسا.
   وذلك أن الشعب الألماني يماثل الشعب الروسي عدداً ونمواً أو يفوق عليه، ولا يفصل بين روسيا وألمانيا إلا بولندة ودويلاتٍ صغيرةٍ أخرى، ويتميز الشعب الألماني بالحيوية والميل العسكري مما يؤهله لبناء قوةٍ عسكريةٍ بشكلٍ سريعٍ. ويكن الألمان في نفس الوقت الاحتقار والاستخفاف بالشعوب السلافية، وقد احتكت روسيا مع الجيوش الألمانية مراتٍ عديدةٍ أثناء محاولاتها بسط سيطرتها ونفوذها على البلقان سواءً مع دولة ألمانيا الحديثة أو مع دولة النمسا-المجر قبل أن تزول هذه الأخيرة في الحرب العالمية الأولى، وفي الحرب العالمية الأولى منيت جيوش روسيا القيصرية بهزائم مريرة على أيدي القوات الألمانية، وكذلك في الحرب العالمية الثانية قبل أن يبدأ العد العكسي للنازية الألمانية.
   يعتبر الكثير من الروس موافقة غورباتشوف على الوحدة الألمانية خطأً فادحاً، ربما تذوق الاجيال القادمة في روسيا مرارته ويعتبرون ذلك هدماً لكل نتائج السياسات الروسية ومكاسبها الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى أية حال فإن الرعب والخوف الذي يخيم على السياسيين الروس من النافذة الألمانية لأوروبا يبقى هو الاعتبار الأول للسياسة الروسية تجاه القارة الأوروبية، ويزداد هذا الرعب في ظل تدهور الاقتصاد الروسي مما يضعف اعتبارات الردع العسكرية لروسيا في تفكير أي حاكمٍ في برلين قد يخطر بباله بعض الخواطر الهتلرية، وكذلك في ظل اقتصادٍ ألمانيٍ متصاعدٍ وقويٍ.

   وأما حذر روسيا من الإنجليز فإنه مفهوم جديد قديم، وذلك أن الإنجليز في عصر قوتهم لم ينفكوا عن كيد المكائد حول روسيا وقوتها العسكرية، وكان القضاء على القوة العسكرية الروسية مركز تنبه رئيس في السياسات الإنجليزية خاضت من أجله حرب القرم، وأعادت بناء سياستها الأوروبية على أساسه على الرغم من عدم رضا حليفتها فرنسا، فرعت بريطانية تصاعد القوة العسكرية الألمانية لمحاولة دفع ولهلم الثاني لحرب روسيا قبيل الحرب العالمية الأولى، ورعت كذلك مرةً أخرى تصاعد القوة الألمانية في ثلاثينات القرن العشرين ووصفت هتلر بأنه الصخرة التي ستتحطم فوقها الشيوعية.
   وأما في عصر أفول نجم بريطانية فإن الروس يعلمون أن الإنجليز يحلمون بأمجاد الامبراطورية العتيقة، ويعلمون كذلك أن القوتين الروسية والأمريكية هما الحاجز أمام تحقيق الأحلام الإنجليزية، ولا يغيب عن أذهان السياسيين الروس أن بريطانية قد حاولت القضاء على هاتين القوتين عن طريق تأجيج الحرب الباردة ودفعهما للحرب الساخنة التي تقضي على قوتيهما فيترك الباب مفتوحاً أمام صعود بريطانية من جديد، وكادت بريطانية تنجح أحياناً كما في قضية طائرة التجسس الأمريكية، والتي نقلت بريطانية خبر إقلاعها من الباكستان مما مكن الروس من اسقاطها وأسر طيارها سنة 1960، وقد ظهر النجاح البريطاني في شدة الأزمة الناتجة عن هذا الحادث في قمة باريس من نفس العام بين خرتشوف وايزنهاور، ووقوف القوتين النوويتين على مفترق الحرب الساخنة. لم يكن الروس سعداء بأن تدفعهم بريطانية مراراً على مفترق الحرب الساخنة مع الولايات المتحدة وازدادت شكوكهم في الصادر والوارد من لندن. ولا يزال الروس ينظرون اليوم كما بالأمس الى السياسات الإنجليزية وتساورهم شكوك أبدية في النوايا البريطانية ويحاولون الحذر من الفخاخ الدولية التي تزرعها أمامهم السياسات البريطانية.
   وأما النظرة الروسية الى فرنسا فإنها ثانوية، وعندما ينشط الروس على الجانب الفرنسي فذلك يكون لخدمة سياستهم إما على الجانب الألماني أو الإنجليزي.
 
   أما ما يتعلق بالسياسة الروسية في الشرق الأقصى فإن فكرة اضعاف الصين هي الضابط المسيطر على السياسة الروسية، وتعتبر هذه الفكرة تقليداً سياسياً لكل حكام موسكو، وذلك أن روسيا القيصرية لم يكن لها أن تتوسع في الشرق ولا أن تصل المحيطات لو كانت الصين قويةً، بل إن توسعها كان على حساب الأراضي الصينية الشمالية، ولم تعترف الدولة الصينية لروسيا بهذه الأراضي ولا تزال الصين تطالب روسيا بجزءٍ من هذه الأقاليم، وإذا ما عادت الصين دولةً قويةً فإن ذلك سيعني الحرب مع روسيا، ولذلك تحاول روسيا جاهدةً اضعاف الصين كلما تمكنت من ذلك.
   إلا أن هذا التوجه في السياسة الروسية قد مني بالفشل الذريع طوال النصف الثاني من القرن العشرين على الرغم من قوة الامكانيات الروسية في تلك الحقبة، وربما يعود السبب الأول في ذلك الى عزم الإدارات الأمريكية المختلفة على دعم الصين وتمكينها من الوقوف في وجه التوسع السوفييتي، وقد تمكنت روسيا من إقامة دولٍ على الشاكلة السوفييتية في أطراف الدولة الصينية أي في فيتنام وكورية، إلا أن العملاق الصيني كان يتضخم من الداخل وقد كان للدعم الصيني أثر فعال في افشال الجهود السوفييتية في أفغانستان وعدم تمكين بكين لموسكو من ربط أفغانستان في الطوق المعادي للصين. وكان تفجير الصين لقنبلتها النووية ومن ثم الهيدروجينية واطلاقها بنجاح صواريخها العابرة للقارات سنة 1980 مأزقاً للسياسة الروسية في الشرق الأقصى، بل إن الصين قد أضحت خطراً على أمن الدولة السوفييتية.
   ولما أصبح توجه القادة السوفييت للوفاق مع الغرب واضحاً فإن محاولاتها احتواء الأخطار الصينية بمناداتها بوحدة الشيوعية العالمية قد ذهبت أدراج الرياح خاصةً وأن الولايات المتحدة كانت تؤجج الأجواء بين الصين وروسيا. وعندما حققت روسيا الوفاق مع الولايات المتحدة واتفقتا على اخضاع الصين لإرادتهما فيما عرف بالحرب الفيتنامية، تولت روسيا شق الحزب الشيوعي الصيني من الداخل بمناداة عملائها بالتعايش السلمي مع الرأسمالية، عندها تحقق لروسيا اضعاف الصين، ولكن ذلك لم يكن حاسماً لأن الولايات المتحدة كانت تريد اضعاف الروح الأممية الثورية في الصين والتي كانت تدفع بالصين للتدخل في شؤون غيرها من جيرانها ما دفعها للتصادم مع الولايات المتحدة ومصالحها كما في الحرب الكورية، ولم تكن الولايات المتحدة معنيةً باضعاف الصين عسكرياً بتلك الدرجة التي تريدها موسكو، بل إن واشنطن قد ساعدت بكين بعد قضائها على الروح الثورية الصينية في بناء صناعاتها العسكرية الاستراتيجية لإبقائها شوكةً كبرى في حلق السياسات الروسية.
   حاول غورباتشوف إذابة الثلوج في العلاقات السوفييتية الصينية بزيارته الى بكين وكذلك فعل يلتسن من بعده إلا أن انكفاء روسيا على أحوالها الداخلية يحد من نشاطها على الاتجاه الصيني، وكذلك الأعباء الداخلية التي تعاني منها بكين يجعل من لهجتها في مطالبتها بأراضٍ داخل روسيا غير حادةٍ في هذا الظرف.

   يضاف كذلك الى السياسة الروسية في الشرق الأقصى البعد الياباني، إذ كانت السياسات الروسية تصب وتتركز على فكرة منع اليابان من الخروج من جزرها بالوسائل الممكنة، وعندما ظنت روسيا أن إعادة اليابان الى جزرها ممكنة بالحرب أشعلت حرباً ضد الجيش الياباني في الصين سنة 1904 في معركة بورت آرثر، إلا أن الهزيمة المذلة التي لحقت بالجيش الروسي قد منعته من المحاولة الساخنة مرةً أخرى. فصارت روسيا تقف في كافة المحافل الدولية ضد التوسعات اليابانية في الصين، وكان ستالين شديد التخوف من التحالف الألماني مع اليابان وكان يتوقع أن تشن اليابان حرباً عليه، ولكن وبعد استسلام اليابان أمام الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية انتهى شبح التوسع الياباني من السياسة الروسية. وسيعود البعد الياباني قوياً الى السياسة الروسية إذا ما نجحت اليابان في التخلص من الشروط القاسية التي فرضتها عليها الولايات المتحدة على أثر استسلامها في الحرب العالمية الثانية، وتحاول اليابان في الشرق الأقصى كما تحاول ألمانيا في أوروبا التخلص من تلك التبعات بعد انهيار الشيوعية والاتحاد السوفييتي.

   وفيما يخص المسلمين فإن الاستخفاف والاستهتار بالمسلمين يعتبر من الأعراف السياسية القديمة في روسيا.
 وذلك أن حداثة الدولة الروسية لم تمكنها من معاصرة الدولة الأموية وكذلك العباسية، وأكثر الشعوب الاسلامية احتكاكاً بروسيا كان التتار ودولتهم مملكة قازان، وعلى الرغم من كثرة غزواتهم لروسيا ومشاركتهم المغول في احتلال الممالك الروسية إلا أن هذا العار قد نفضته روسيا عن جبينها باحتلالها لقازان وتنكيلها البشع بالمسلمين التتار واخضاعهم لحكمها من سنة 1552 وحتى اليوم . وكان الروس في حروبهم لقازان قبل احتلالها يستعينون عليها بممالك اسلامية أخرى، ولم تحتك روسيا بالدولة العثمانية أثناء قوتها وأخذت تحتل الولايات الاسلامية في القفقاز وآسيا الوسطى ليس اقتطاعاً مباشراً من الدولة العثمانية إنما ولايات قد تمزقت عن الدولة العثمانية على أثر ضعفها، فكانت عبارة عن دويلاتٍ هزيلةٍ مستقلةٍ، ومجمل القول أن روسيا لم توجه الأمة الاسلامية اطلاقاً ولم تعرف جبروتها، وإنما كانت تواجه شعوباً اسلاميةً منفصلةً عن الأمة الاسلامية.
   فكانت هذه الانتصارات المتتالية لروسيا القيصرية على الشعوب الاسلامية، يضاف اليها سهولة الاستعمار، أي أن مقاومة الغزاة الروس لم تكن بالمستوى اللائق، على الرغم من تنكيل المحتلين بأهل البلاد وعلمائها، والاستثناء من هذه الشعوب هي الشعوب المسلمة الصغيرة في شمال القفقاز حيث عجزت روسيا عن إطفاء ثورة المجاهد شاميل لعقودٍ طويلةٍ، مما أخرج هذه الشعوب الصغيرة كالشيشان وأهل الداغستان من دائرة الاستهتار والاستخفاف الروسي، ولا تزال آثار ثورة المجاهد شاميل ترفع من معنويات المسلمين في شمال القفقاز الى اليوم. أما في جنوب القفقاز وفي آسيا الوسطى وحوض الفولغا فقد استوطن الروس ولاقت بضاعتهم رواجاً وقبولاً بعد فترةٍ من احتلالهم لهذه البلاد رغم وجود المقاومة بادئ الأمر، وقد نجحت روسيا في صقل أذهان المثقفين من أبناء المسلمين بمفهوم مسلمي روسيا القيصرية بدلاً عن مفهوم الأمة الاسلامية خاصةً عندما كان المسلمون يرون تردي أوضاع الدولة العثمانية وعدم مقدرتها على نجدتهم وإخراجهم من ظلم روسيا القيصرية.
   لم تغير فترة الحكم الشيوعي شيئاً من ذلك المفهوم وكان واضحاً في كل جوانب الحياة السوفييتية أن المسلمين هم مواطنون من الدرجة الثالثة.
   وإجمالاً فإن الأحداث الكثيرة عبر قرونٍ طويلةٍ قد أوجدت هذا الاستهتار والاستخفاف الروسي بالشعوب الاسلامية، فأقدمت روسيا على احتلال أفغانستان ضاربةً بالرأي العام في العالم الاسلامي جانباً، غير آبهةً بالمسلمين من مواطنيها، وبلغ من استهتارها أن شكّلت فرقاً عسكريةً من جنودها ذوي القوميات الاسلامية الأوزبكية والطاجيكية لحرب إخوانهم الأفغان ومن نفس القوميات الأوزبكية والطاجيكية القاطنة في أفغانستان، ولم يرو أن هؤلاء الجنود قد تمردوا على قياداتهم الروسية أو حتى امتنعوا عن تنفيذ الأوامر الروسية بالتقتيل والتدمير في أفغانستان.
   وعندما أوشك الاتحاد السوفييتي على الانهيار وطرح غورباتشوف الاستفتاء على فكرة الاتحاد، كانت الغالبية العظمى من مؤيدي الاتحاد أي البقاء ضمن السيطرة الروسية وعدم الاستقلال من المنتخبين في آسيا الوسطى مما زاد من استخفاف الروس بهم، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي لم تحصل البلدان الاسلامية على هيبةٍ لاستقلالها كهيبة دول البلطيق، واستمرت روسيا في التعامل مع هذه الدول الجديدة باعتبارها مزارع خلفية لها، وأعلنت حرباً على جمهورية الشيشان سنة 1994، وكذلك سنة 1999 لإعادتها الى بيت الطاعة الروسي دونما اعتبار بردة فعل الشعوب الاسلامية، بل وبالعالم الاسلامي أجمع والذي روج حكامه على أن ذلك شأن روسي داخلي.
   فهذه النظرة المستهترة بالمسلمين متأصلة في أذهان الروس حكاماً وشعباً، ولا تعتبر هزيمة الروس في أفغانستان ولا هزيمتهم المذلة في الحرب الشيشانية الأولى ولا عدم قدرة جيش روسيا تحقيق أهدافه في الحرب الشيشانية الثانية كافيةً لرد الاعتبار وتغيير فكرة الاستهتار الروسية بالمسلمين، وكذلك الخوف الروسي من الحركات التي يسمونها بالأصولية، نعم لا يعتبر ذلك كافياً لتبديل مفهوم الاستهتار العميق في أذهان الروس.                      
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق