10 نيسان 2008
تتضافر عدة عناصر لبناء قوة الدول، وعند الحديث عن عظمة دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية فإن عناصر القوة فيها قد تم بناءها عبر تاريخ طويل، وليس هذا فحسب فإن مناخاً مناسباً كان لازماً لابراز عظمتها بالشكل الذي تبدو فيه، وهذا المناخ قد شكلته الحرب العالمية الثانية، فلم يكن بإمكان قادة الولايات المتحدة دفعها الى تلك المكانة المرموقة بين الأمم لو لم تحصل تلك الحرب التي برزت فيها الولايات المتحدة كقوة نووية بتسديدها الضربات القاتلة لليابان، وبرزت كقوة اقتصادية وصناعية وعسكرية من الدرجة الأولى بكميات السلاح الهائلة التي صنعتها وباعتها للدول الكبرى خلال الحرب بالاضافة الى حقيقة ما تمتلكه من أراضٍ خصبة وصناعة قوية، وبعزيمة قادتها فقد اندفعت تفرض شروطها على الحلبة الدولية فكان بروزها الشديد كقوة سياسية جبارة عبر العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. وعناصر القوة الأمريكية هذه وغيرها كثير بلغت من العنفوان والشهرة بحيث يصعب أن يتخيل العقل ضموراً لهذه القوة أو اختفاءً لها عن الحلبة الدولية.
لكن المتابع لأحوال هذه القوة الجبارة يجد أن تغييرات جوهرية تحصل في قوة الولايات المتحدة الآن ومنذ اختفاء دولة الاتحاد السوفييتي، وإذا لم يستطع قادة الولايات المتحدة إنقاذها فإن واقع حالها الآن أنها بدأت طريقها نحو الهبوط، ويمكننا أن نستقرأ الآفاق الممكنة خلال الفترة المتوسطة القادمة والتي تقودنا بأن طريق أمريكا نحو الهبوط طريق ثابت يصعب إنقاذه، وبالتالي فإن مسألة هبوطها ونزولها صارت هي الأقرب الى الواقع المنظور. وبالنظر الى واقع القوى الكبرى الأخرى في عالم اليوم فإننا لا نجد أي قوة في العالم يمكنها أن تقتعد مكانة أمريكا أو أن تحل محلها في السياسة الدولية، وإن كانت كل دولة قادرة على ملئ الفراغ في جزءٍ من العالم بما يخلق عالماً متعدد الأقطاب بشكل عملي، ولكن يبقى هناك احتمال أن يتسارع الهبوط الأمريكي عن معدله الحالي فيحتدم الصراع بين قوى كبرى وقد يتطور الى حرب لا تكون فيها الولايات المتحدة صاحبة الكلمة الأولى، وهذا ممكن على الساحة الأوروربية وممكن في الشرق الأقصى، وأما في منطقتنا الاسلامية فإنها تبقى هي الساحة الرئيسية التي تجذب السياسات الدولية اليها نظراً لعاملين، الأول ما يسميه الغرب بالخطر الأيديولوجي الاسلامي والثاني ندرة النفط العالمية، وسنتطرق الى هاتين المسألتين بالقدر الذي يلزم في موضوع تآكل عظمة الولايات المتحدة الأمريكية.
بنت الولايات المتحدة عناصر قوتها على عين وبصيرة وكان المناخ الدولي يدفع باتجاه إحكام عملية البناء هذه، فكانت الظروف الدولية الناجمة أساساً عن قوة دولة الاتحاد السوفييتي واحتمال اجتياحه لكامل الأراضي الأوروبية دافعاً قوياً للساسة الأمريكيين لزيادة عظمة دولتهم حتى تتمكن من مجابهة الأخطار الماحقة بالعالم الرأسمالي التي مثلتها دولة الاتحاد السوفييتي. ولكن انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع التسعينات قد انعكس وصار عامل ترهل في الدولة الأمريكية، أما كيف كان ذلك؟ فعلى النحو التالي:
بنت الولايات المتحدة ترسانة نووية وصاروخية بطاقة جبارة بحيث لم تستطع منافستها أي من الدول العظمى الأخرى كبريطانيا وفرنسا والصين، وكانت أمريكا هي التي تدفع الاتحاد السوفييتي الى سباق التسلح في خطة مدروسة تحملت أمريكا خلالها الكثير من النفقات، ومع انهيار الاتحاد السوفييتي توقف سباق التسلح بالوتيرة التي كان عليها قبل الانهيار، وكان هذا طبيعياً من أجل تخفيض النفقات وبسبب غياب العدو، وبهدف التخلص من الترسانة النووية التي خلفها الاتحاد السوفييتي والتي باتت هي عنصر العظمة الوحيد في دولة روسيا الحديثة فإن أمريكا استمرت في الاتفاق مع روسيا على خفض الترسانة النووية بتدمير تلك الرؤوس التي كلفت كلاهما مئات المليارات من عملاتهما، ومع الاستمرار في التخفيض فإن القوة العسكرية النووية لكل منهما قد تناقصت كثيراً واقتربت من أن تصبح قابلة للمنافسة من قوى أخرى، بمعنى أن أمريكا كما روسيا قد نزلتا عن البرج العاجي الذي لم ينافسهما عليه أحد، ومع الاستمرار في سياسة خفض ترسانتهما النووية فإن كلاهما يكون قد فقد من عنصر قوته النووية. صحيح أن هذه المسألة ليست تآكلاً في عظمة الولايات المتحدة النووية حالياً، ولكنها إذا ما قرنت بعناصر أخرى فإن هذا الواقع قد يكون خطيراً في المستقبل، وذلك إذا قامت قوية دولية جديدة ببناء ترسانة نووية دون أن يتمكن الاقتصاد الأمريكي من إعادة الكرة من جديد والمنافسة مع القوة الناشئة، وعلى أي حال فإن هذا العنصر ليس هو المقصود من هذا المقال وإن وجبت الاشارة اليه باعتبار احتمالات المستقبل.
ولكن الواجب الاشارة اليه أن وتيرة التطوير العسكري الأمريكي كانت تسير عموماً بخطى متسارعة في حقبة سباق التسلح مع الاتحاد السوفييتي في تكنولوجيا التجسس والصواريخ وباقي قطاعات الانتاج العسكري بما فيها الأسلحة النووية. وبغياب الاتحاد السوفييتي فإن وتيرة هذا التقدم قد فقدت الدافع فانخفضت بشكل كبير في كافة قطاعات الانتاج العسكري.
كشفت الحرب الأمريكية على العراق ضعفاً عسكرياً كبيراً في الجيش الأمريكي. تمثل هذا الضعف بشكل أساسي في عدم قدرة هذا الجيش الجرار والأول في العالم على حسم المعركة مع المجاهدين في العراق، صحيح أن عامل القوة الأبرز للمقاومة العراقية هو العقيدة الاسلامية وعدم المبالاة بالاستشهاد والتضحية إلا أن النتيجة هي انكشاف حدود القدرات العسكرية للجيش الأمريكي، وانكشاف أنماط جديدة من المعارك والحروب التي تنتظر هذا الجيش في البلاد الاسلامية بحيث لا يمكن للطاقة العسكرية الاستراتيجية لأمريكا (من صواريخ وأسلحة نووية) أن تحسم من خلالها المعركة، وربما يكون بروز القوى الاسلامية في العالم الاسلامي وسلاح العقيدة التي أججتها الحرب الأمريكية على الارهاب من أعظم الأخطار الاستراتيجية التي تواجه عظمة الولايات المتحدة، وإذا ما قرن ذلك بالحاجة الماسة لأمريكا لنفط العالم الاسلامي فإن هذا الظرف الجديد هو المرجح من الناحية السياسية لتوجيه الضربة الحاسمة لعظمة الولايات المتحدة في العالم. يقول احد الكتاب اليهود "إن اعظم النتائج السلبية الناجمة عن الغزو الأمريكي للعراق أن المتشددين الاسلامييين لم يعد يرهبهم الجيش الأمريكي ". وإجمالاً فإن أمريكا فشلت في تحقيق الاستقرار في العراق وأفغانستان ولا يزال جيشها يغوص في الأوحال في هذين البلدين دون أن تنقذه الآلة العسكرية التي طالما تفاخر بها وأرهب بها العالم.
وبالتدقيق يجد المتابع أن الولايات المتحدة التي برزت كقوة لا يمكن لعدو أن يقف في وجهها حتى أواخر القرن العشرين قد عجزت عن تطوير سلاح تتمكن به من حسم المعارك بشكل أكيد، وأن جيشها لم يبد كفاءات يستطيع بها إرهاب العدو، فلا التضحية من سماته ولا الصبر كذلك، وفوق ذلك فإن التقارير الأمريكية تتحدث عن حالة إرهاق شديدة يعاني منها أفراده وأنه غير قادر على خوض الحروب الطويلة أو على فتح جبهات أخرى خارج العراق وأفغانستان. ولو وجدت في منطقتنا الاسلامية قوة تخطط لطرد النفوذ الأجنبي من المنطقة لكان الظرف الحالي هو الأنسب لشن الحرب على القواعد العسكرية الأمريكية عبر العالم الاسلامي وحملها على إخراج قواعدها وجيوشها من المنطقة، ولكان ذلك بأقل الخسائر الممكنة للمسلمين، بل إن دعم المقاومة في العراق وأفغانستان قد يكون لوحده كفيل بهزيمة الجيش الأمريكي في المنطقة، وهذا الاحتمال يبدو الآن جلياً كما لم يكن من ذي قبل أبداً. وهذا الضعف العسكري للجيش الأمريكي وعجزه عن حسم المعارك قد أفقده هيبته الدولية، فطمعت بالولايات المتحدة الدول الكبرى الأخرى وتجرأت عليها وأحياناً بشكل فيه استفزاز كما في طلب عميل أمريكا السابق حاكم أوزبكستان وبدفع من روسيا بعد أن رأت حجم الورطة الأمريكية في العراق فطلب كريموف من أمريكا أن تقوم بإخراج قاعدتها العسكرية كرشي من أوزبكستان في غضون ستة أشهر غير قابلة لأي مفاوضات، وهذا ما كان. وكثر تجرؤ الدول الأوروبية على الولايات المتحدة فقامت فرنسا بالاتفاق مع دولة الامارات في الخليج على بناء قاعدة عسكرية فرنسية فيها هي الأولى للدول الأوروبية التي تنافس الوجود العسكري الأمريكي في تلك المنطقة، بعد أن كانت الدول الأوروبية تحاول الحصول على أي مشاركة في حفظ أمن الخليج الذي كانت تستفرد به الولايات المتحدة.
وفي النتيجة يمكن الجزم بأن حربي العراق وأفغانستان قد عملتا على تآكل العظمة العسكرية الأمريكية بشكل لم يكن منظوراً عند التخطيط للحرب، الأمر الذي لم تفعله هجمات 11 سبتمبر ولا أي هجمات مماثلة محتملة على الأراضي الأمريكية.
وهذا التآكل يشمل هيبة الجيش الأمريكي وجنوده ويشمل كذلك آلياته. ففي التصنيع العسكري فضلاً عن حديث الجنرالات الأمريكيين عن إنشغال كافة أسراب الطائرات المقاتلة الأمريكية حول العالم بالحرب في العراق إلا أن أحداثاً أخرى جديرة بالملاحظة، فمثلاً أسطول طائرات (F-15) قد تقادم كثيراً مما اضطر الجيش الأمريكي الى إخراجه بالجملة من الخدمة أثناء الحرب في العراق، وهذا يحد من القدرات الهجومية لسلاح الجيش الأمريكي إذ تم إخراج 500 طائرة مقاتلة، ويمكننا تصور أن الكثير من اساطيل الجو الأمريكية تقترب من استنفاذ طاقتها وعمرها بسبب كثافة الطلعات الجوية التي تم استخدامها فيها، وهذا تآكل فعلي للقوة الجوية الأمريكية. وهنا قد يبرز سؤال بأن الولايات المتحدة ومصانع كوكهيد قادرة بالتاكيد على إنتاج مثيلات هذه الطائرات إن لم يكن على انتاج طرزٍ أكثر تطوراً، وهنا يبرز الخطر الجديد الذي يواجه عظمة الولايات المتحدة وهو الضعف الاقتصادي بما لا يمكنها بشكل أكيد من تنفيذ كافة خططها في التصنيع. وفي مجال التطوير العسكري الجوي حذر قائد أمريكي بأن الطائرة الصينية (جيان 10) الجديدة المتفوقة على كافة الطرز الجوية الأمريكية تهدد بقلب المعادلة الجوية، وإذا ما قرنت هذه المسألة بامتلاك الصين طاقات اقتصادية جديدة وفقدان الولايات المتحدة المستمر للقوة الاقتصادية فإن الصين يمكنها أن تكون قوة جوية تهدد مكانة الولايات المتحدة في الطيران العسكري وتقضم من أسواقها الدولية، بل إن الكثير من الخبراء والسياسييين ينظرون بانبهار وحذر الى السرعة التي تضع فيها الصين نفسها في مصاف الدول الأربعة المنتجة للسلاح بقدرات ذاتية تامة في مجال انتاج غواصات نووية وطائرات إنذار مبكر ومدمرات وصواريخ عابرة للقارات وأنظمة قيادة وسيطرة تعمل بالحاسوب.
هذا على الجانب العسكري، أما في جانب القوة السياسية فإن المتبع يجد أيضاً بأن الولايات المتحدة تفقد من نفوذها السياسي عبر العالم وأن مسائل اقتصادية وغير اقتصادية تقودها الى بذل المزيد من الجهود على الداخل الأمريكي مما يفقدها التركيز الذي تمتعت به لعقود ما بعد الحرب العالمية الثانية على سياستها الخارجية.
أما نفوذها في الخارج فإن الطموح الأمريكي بجعل القرن الحادي والعشرين قرناً أمريكياً قد دفعها للتنكر لكافة الدول الكبرى في العالم، وكاد النجاح الأمريكي الذي توقعه ساستها من المحافظين الجدد أن يضمن لأمريكا نفوذاً واسعاً ومتفرداً حول العالم، لكن هذه الأحلام قد تحطمت كلياً على صخرة المجاهدين في العراق الذين أبلوا بلاءً منقطع النظير في مواجهة الجيش الأمريكي مما منع أمريكا من تحقيق أهدافها المرسومة في العراق. وكان أثر الفشل في العراق على أمريكا بالغ الشدة سياسياً على النحو التالي:
أولاً: اندفعت الدول الكبرى توجد المتاعب للولايات المتحدة وتقضم من نفوذها عبر العالم، وكانت هجمة هذه الدول على المصالح الأمريكية أكثر وأشد جرأة من ذي قبل مندفعة بالحنق على سياسات التفرد الأمريكية، فقامت بريطانيا وفرنسا تؤازرها دول أوروبية أخرى بخلع نفوذ أمريكا من موريتانيا وتهديد نفوذها في القرن الأفريقي في الصومال وكينيا وزيمباوي حالياً، وهددت نفوذها في لبنان وفي القضية الفلسطينية بشكل ملموس، ووضعت الولايات المتحدة قيادتها الجديدة لجيوشها الأفريقية في ألمانيا بسبب تخويف الدول الأوروبية للحكام الأفارقة من قبول استيعاب هذه القيادة على أراضيها، وفي باكستان وإن كان ذلك استغلالاً للأخطاء الماحقة التي وقعت بها إدارة بوش في أفغانستان وباكستان، وفي أمريكا اللاتينية تواجه السياسة الأمريكية نزعات قوية ومتزايدة للتمرد على نفوذها في القارة التي كانت حصن أمريكا الحصين.
وأما روسيا فإنها قد سددت ضربات كبيرة للنفوذ الأمريكي في آسيا الوسطى فأخرجت معظم القواعد العسكرية الأمريكية من تلك المنطقة وعملت على تهديد النفوذ الأمريكي في جورجيا وأوكرانيا، وبهذه الأعمال فإن المد السياسي الأمريكي في جمهوريات الاتحاد السوفييتي قد أصبح جزراً. وتحاول روسيا بما تملكه من موارد الطاقة فصل الصين عن النفوذ الأمريكي في إمدادات الطاقة فقامت بتوقيع العقود معها لمد أنابيب النفط والغاز وأشركتها في آسيا الوسطى لتطوير حقول الطاقة هناك عبر تأسيس وتنشيط منظمة شنغهاي للتعاون الروسي الصيني، بل إن كازاخستان قد أخذت تراجع كافة عقود الطاقة مع الشركات الأمريكية لا سيما شيفرون تمهيداً للتنصل من تلك العقود وبالتالي حرمان الولايات المتحدة من مكاسبها التي جنتها خلال التسعينات في مجال الطاقة في منطقة بحر قزوين.
ثانياً: خلق الفشل الأمريكي في العراق عملية إعادة نظر تكاد تكون شاملة في الاستراتيجية الأمريكية التي ابتدعت أثناء رئاسة بوش الإبن، فأدى ذلك الى خروج قيادات القرن الأمريكي الجديد من الذين يطلق عليهم بالمحافظين الجدد من الحكم في واشنطن أمثال ريتشارد بيرل وولفويتز وجون أبي زيد ورامسفيلد وغيرهم كثير وكان خروجهم بالجملة على أثر انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي نهاية سنة 2006م، وأدى الى ما يشبه تنصل أمريكا من سياسة الحروب الوقائية التي ابتدعها المحافظون الجدد وأرادوا بواستطتها بسط النفوذ العسكري والسياسي الأمريكي عبر العالم. ولعل شعار التغيير الذي يرفعه أوباما وهو أحد مرشحي الحزب الديمقراطي للرئاسة يكشف بما يلاقيه من دعم أمريكي عن إعادة نظر كبيرة في السياسة الأمريكية، وأن الكثير من الساسة الأمريكيين يرون النجاح في العراق فقط عن طريق تمكن واشنطن من نزع نفسها من العراق دون أن يؤدي ذلك الى توليد مخاطر أكبر للسياسة الأمريكية.
ومجمل القول ان الولايات المتحدة باتت في وضع تخسر فيه أكثر مما تكسبه على الحلبة الدولية وأن مسألة الأقطاب المتعددة دولياً ترسم نفسها فعلاً دون أن تتمكن القدرات الأمريكية من فرض التفرد. بل إن الادارة الأمريكية القادمة قد تكون بصدد الاعتراف العملي بتعدد الأقطاب الدولية أي أن تضع حداً للأحلام الأمريكية بالتفرد بشكل نهائي. ومن ناحية أخرى فإن المنافسة الداخلية في أمريكا في طرح حلول للخروج من الورطة العراقية توجد الشكوك داخلياً حول أي طرح مما يوهن من عزيمة القادة في تنفيذ السياسات العملية، وهذا يجعل فشلها أرجح وأقرب من النجاح، وإذا ما عاد العراق للاشتعال من جديد بالوتيرة التي سبقت تأسيس الصحوات فإن وضع السياسة الأمريكية سيزداد وهناً على كافة الصعد، داخلياً في تزايد المشاكل الاقتصادية، وخارجياً في استمرار النزيف الأمريكي في العراق وإعادة التركيز في السياسة الأمريكية الى العراق وبالتالي خسارة المزيد من النفوذ في مناطق أخرى من العالم.
والذي يضعف أيضاً من قوة السياسة الأمريكية هو سقوط الذرائع الأيديولوجية لهذه السياسة مثل حقوق الانسان ونشر الديمقراطية وأمثالها بعد أن كشف العراق وأفغانستان والسجون المتنوعة والممارسات الأمريكية وبشكل خاص سجن غوانتنامو عوار هذه الشعارات. فأصبحت السياسة الأمريكية مكشوفة دولياً وصار يتعذر تغطيتها بالغطاءات الأيديولوجية التي طالما كانت عنصر قوة في أيدي ساسة واشنطن.
وأما على جانب الاقتصاد فإن الولايات المتحدة تعاني من مشاكل خطيرة في اقتصادها. فكان الاقتصاد الأمريكي يعاني من بعض الآلام قبل دخول العراق مثل المديونية العالية للخزينة الأمريكية وعجز الميزان التجاري مع اليابان وبعدها مع الصين عجزاً مزمناً بسبب ما ترسخ عند المواطن الأمريكي من أعراف الجشع في الاستهلاك. وبدخول العراق فإن مخططي القرن الأمريكي الجديد كانوا يرون الفوائد الاقتصادية من عملية إعادة الاعمار بعد أن تم تدميره وكذا المرابح النفطية إذ يختزن العراق كميات خيالية من النفط يقدر المؤكد منها فقط بما يزيد عن 12 تريليون دولار، وإذا ما أمسكت به الشركات الأمريكية فإن ذلك يشكل ثروة خيالية بالإضافة الى ما يحويه النفط من عنصر قوة سياسية خاصة وأن عصر النفط يدخل الآن فعلاً مرحلته الحرجة وأن الامساك به قد صار بالغ الحيوية والحساسية للقوى العظمى كافة.
ومع اشتداد أعمال المقاومة في العراق خلال السنوات السابقة وفقدان الجيش الأمريكي للأمن فإن الأحلام الأمريكية بالاستثمار في إعادة الاعمار قد تبخرت وعادت الكثير من الشركات الأمريكية التي سارعت بعد الاحتلال لدخول العراق أدراجها الى واشنطن متخلية عن عقودها فيه ، وأما النفط فإن الظروف الأمنية في العراق قد منعت أمريكا وشركاتها من تطوير استغلال الطاقة النفطية العراقية وبقيت إمدادات النفط أقل من واقعها قبل الاحتلال. وعندما ارتفعت تكاليف الجيش الأمريكي في العراق فإن العراق قد صار نزيفاً شديداً للاقتصاد الأمريكي خلال السنوات الخمس الماضية وأن النفط العراقي الجاري تصديره الآن لا يستطيع الوفاء حتى بتكاليف شهرين من العام من نفقات أمريكا العسكرية في العراق. وعلى الرغم من أن الثروة النفطية الهائلة في العراق تجعل أمريكا متشبثةً به وتبقى تأمل بتحسن المناخ الأمني في المستقبل إلا أن واقع الحال الآن أن العراق ونفقاته يستمر في تشكيله نزيفاً شديداً للاقتصاد الأمريكي دون أي رؤية مؤكدة للاستقرار.
وأمريكا التي تستند في قوة اقتصادها على الكثير من دول العالم المرتبطة بالدولار كان طبيعياً عليها أن تلجأ عبر أسعار الفائدة للتحكم في ضخ الأموال الضرورية لنفقاتها في العراق. لكن استمرار انخفاض العملة الأمريكية وتكبد شعوب ودول العالم الخسائر المتتالية بسبب السياسات المالية الأمريكية فإن بعض هذه الدول قد وجد في الاستناد الى اليورو الأوروبي سبيلاً له للنجاة من هذه الخسائر التي تفرضها أمريكا. وبسبب المشاكل الاقتصادية التي تضرب الولايات المتحدة فإن أمريكا قد فقدت عام 2007 مكانتها الأولى في البنك الدولي واحتلت بريطانيا تلك المكانة ليكون ذلك سبباً في فقدان الولايات المتحدة لأداة بالغة الأهمية طالما استخدمتها دولياً لا سيما في دول العالم الثالث من أجل تعزيز نفوذها وفرض شروطها.
وبسبب المخاطر الكبيرة التي أخذت تبرز نتيجة انكشاف وهن الاقتصاد الأمريكي فإن موجة انهيار حقيقي قد ضربت سنة 2007م سوق العقارات الأمريكية مكبدةً الأفراد وصناديق الاقراض خسائر خيالية، وبسبب ارتباط هذه المشلكة الاقتصادية بالمواطن الأمريكي وبسبب اعتماد الاقتصاد الأمريكي بشكل كبير على القدرة الشرائية والنشاط الاستهلاكي فإن مسألة الرهن العقاري أخذت تضرب باقي قطاعات الاقتصاد بشكل حمل الكثيرين على التنبوء بأن الاقتصاد الأمريكي يدخل فعلاً مرحلة الكساد.
وهنا لا بد من التنويه الى مسائل بالغة الأهمية حول الاقتصاد الأمريكي اليوم:
المسألة الأولى: ينحسر الاقتصاد الأمريكي عن الانتاج الصناعي بشكل فعلي، و7% فقط من القوى العاملة في أمريكا تشتغل بالصناعة بما في ذلك قطاع صناعة المعلومات الشهير في أمريكا. وهذه الحقيقة نتجت عن موجة العولمة التي قادها كلينتون عبر التسعينات قد فتحت آفاق كبيرة للمستثمر الأمريكي عبر العالم فأدى ذلك الى تركيز المستثمرين الأمريكيين على التجارة المالية والنفطية بشكل غير مسبوق، فانتعشت هذه الاستثمارات في أسواق الأسهم وتضخمت البنوك وتعددت صناديق الاقراض، وهذا وإن كان يجر الأرباح لهؤلاء المستثمرين إلا أنه من ناحية أخرى قد أبعدهم عن الاستثمار الانتاجي الصناعي، وهربت الكثير من الصناعات الأمريكية الى آسيا خاصة الصين والهند خلال حقبتي كلينتون. وفي ضوء اقتصاد الأزمات الحالي في الولايات المتحدة فإن هؤلاء المستثمرين قد أصبحوا عرضة للمزيد من الخسائر المالية المباشرة بسبب إضطراب الثقة بالدولار وبعموم أداء الاقتصاد في أمريكا. وتتحدث الكثير من التقارير عن نقصان ثروة الأمريكيين بشكل متزايد بتريليونات الدولارات كل عام لهذه الأسباب ولأسباب استمرار العجز التجاري الأمريكي لا سيما مع الصين.
والمسألة الثانية هي بروز الصين كقوة اقتصادية متسارعة النمو، وهذا يشكل من ناحية عنصر نزيف للأموال الأمريكية باتجاه الصين، ومن ناحية ثانية فإن الصين تجد نفسها في وضع اقتصادي قابل لمنافسة الولايات المتحدة في بعض المناطق. ففي أفريقيا أقلعت الكثير من الدول الأفريقية عن أمريكا والبنك وصندوق النقد الدوليين وأخذت القروض الميسرة مخففة الشروط من الصين. وهذا عامل جديد تخشاه أمريكا، فمن ناحية يفقدها مكانتها في التحكم بالأموال دولياً، ومن ناحية أخرى يجعل النفوذ الصيني في بعض المناطق نفوذاً قابلاً للتحول الى قوة حقيقية للصين لا سيما في أفريقيا وآسيا الوسطى، فتجد الولايات المتحدة نفسها في مواجهة دولة جديدة في الحلبة الدولية تضاف الى الدول الاستعمارية التقليدية في أوروبا.
والمسألة الثالثة تتمحور في أن الدولار يفقد شيئاً فشيئاً من مكانته الدولية كذلك، وقد ذكر بعض المسؤولين الأمريكيين بان الدولار قد فقد هيمنته النقدية العالمية، وبغض النظر عن صحة ذلك فإن الدولار يسير في اتجاه فقد هذه الهيمنة، وفيما لو اكتمل هذا المسار فإن قلة من دول العالم تكون قابلة لمشاركة الولايات المتحدة خسائرها الناجمة عن نفقاتها الكبيرة كما في العراق الآن، وأن الولايات المتحدة ستتحمل لوحدها هذه النفقات مما يزيد في إضعافها بشكل متسارع، والثابت المؤكد الآن أن الدولار يفقد من نفوذه في العالم بشكل بطيء نسبياً ولكنه ثابت الاتجاه، وأن الولايات المتحدة لا تزال واثقة من نجاح سياساتها المالية عالمياً، لكن يسهل الجزم بأن هذا لم يعد مضموناً وأن الكثير من دول العالم باتت تشك في الاقتصاد الأمريكي واستقراره، وإذا ما أدت أزمة الرهن العقاري في أمريكا الى كساد حقيقي وفقدت الدول كالصين مصالحها في الارتباط بالدولار فإن ذلك قد يؤدي الى فكلها لارتباط اقتصادها بالعملة الأمريكية، وهذا قد ينجم أيضاً عن السياسات المالية ألأمريكية التي تكبد دول العالم خسائر فادحة قد تحملتها دول العالم حتى الآن، وهذه الخسائر هي عامل آخر يدفع دولاً كثيرة عبر العالم للثورة ضد نفوذ الدولار والبحث عن بدائل له.
والمسالة الرابعة وهي استمرار الانشغال الأمريكي بعلاج الضعف الاقتصادي، إذ فشلت السياسات الأمريكية حتى الآن في إنقاذ الاقتصاد، وربما يندر أن تجد بيانات إيجابية مطمئنة في أداء الاقتصاد الأمريكي، وفي العام 2007 و2008 برز الاقتصاد على أنه المشكلة الأهم للأمريكيين عن أي قضية خارجية أخرى، وإذا ما قرن ذلك باحتمال غير مستبعد في بروز أزمات أخرى في الاقتصاد الأمريكي فإن إنشغال الساسة بالحلول الاقتصادية قد يصبح هو اكثر بروزاً في الادارة الأمريكية القادمة، وإذا ما حصل وهذا ممكن فإن لذلك تبعات كثيرة على عظمة الولايات المتحدة، إذ قد يلجأ قادة البيت الأبيض للانكفاء عن الخارج والانشغال بالاقتصاد، وقد لا يكون مثال الانهيار الاقتصادي في روسيا بداية التسعينات مستبعداً بشكل تام عن الولايات المتحدة وإن كان ترجيحه بحاجة الى ظروف أخرى على الساحة الدولية لم تتشكل بعد. وهذا الانكفاء الأمريكي حتى وإن كان بدرجة أقل من الانعزال سيؤدي الى تخلي الولايات المتحدة عن بعض مصالحها في الخارج. ومن الجدير ملاحظته في أمريكا ان سياسة العولمة قد ضاعفت بشدة من غنى الأغنياء وفاقمت بقوة من مشاكل الفقر وهي آخذة طريقها في القضم من الطبقة الوسطى، وبما أن ذلك قد حصل بسرعة قياسية في غضون عقد فإن أمريكا مرشحة لاضطرابات اقتصادية واحتجاجات شعبية قد تربك سياستها الاقتصادية وتقودها الى عزلة فعلية حتى ولو لم تكن كلية عن العالم.
وفي واشنطن يشعر الساسة فيها بأن أمريكا قادرة على درء المخاطر الناجمة عن المنافسة أو الصراع الدوليين مع الدول الكبرى في أوروبا ومع روسيا، ولكن أمريكيا متخوفة بشكل خاص من القوة الاقتصادية الصينية ومن الخطر الاسلامي. وغير بعيد عن الخطر الاسلامي في أذهان الأمريكيين ينادي بعضهم بوضع استراتيجية جديدة للشرق الأوسط لا تشمل إبقاء القواعد العسكرية فيه، وهذا وإن كان مستبعداً بسبب الحاجة الأمريكية والعالمية للنفط والتي تزداد حساسيتها وشدتها بسبب نضوب حقول نفط وقرب نضوب أخرى حول العالم ليبقى الشرق الأوسط محط أنظار القوى الكبرى كلها في حاجة اقتصادياتها للنفط، ووجود هذا التصور عند البعض في أمريكا ناجم عن رؤيتهم لما ستؤول اليه أوضاع الشرق الأوسط في ظل قوة الاسلام المتزايدة والمهددة بالتحول الى خطر شامل للنفوذ الغربي بكامله.
وقد يسجل التاريخ الرئيس جورج بوش على أنه الرئيس الذي دق أسافيل الانهيار في عظمة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد يؤرخ للولايات المتحدة بما قبل جورج بوش وما بعدة لكثرة الأخطاء الاستراتيجية التي مزقت كثيراً من عظمة الولايات المتحدة الأمريكية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق