الأحد، 20 مارس 2011

سقوط الرأسمالية الى الهاوية

 20 تشرين الثاني 2008

أضواء فكرية وسياسية على الأزمة المالية الرأسمالية

طالما تغنت الدول الرأسمالية الغربية بتقدمها الاقتصادي وتبجحت برفاهية شعوبها وببحبوحة العيش التي أوجدها المبدأ الرأسمالي، وطالما كان صعباً إقناع الكثيرين من المضبوعين بالغرب بعيوب الفكر الرأسمالي وبطلانه أمام حقائق الواقع الغربي من تقدم ورفاهية وسطوة سياسية وعسكرية ونجاح استعماري واسع. ولقد ازداد تبجح الرأسماليين الغربيين بعد الانتصار المدوي على الاشتراكية السوفييتية بداية التسعينات من القرن المنصرم حتى حمل ذلك النصر بعض مفكريهم مثل فوكوياما للتحدث عن نهاية التاريخ بهذا النصر الرأسمالي العظيم.

كان التقدم الاقتصادي الراسمالي بنموذجه الأمريكي محل تسائل كبير من الخبراء الاقتصاديين والسياسيين حول العالم، وكانت نظرة الخبراء بشكل عام تنحسر في رؤيتهم لتجمع مخاطر متعددة حول أمريكا سياسياً واقتصادياً، وأما المسلمين المبدئيين فقد كانوا مطمئنين الى وجوب انحسار أمريكا لأنها تقوم على باطل وأن مرسل رسالة الهدى لا بد مظهر دينه حين يشاء.


فالخبراء من غير المسلمين كانوا يشاهدون ظلم أمريكا للعالم وجبروتها ويدركون ما يتولد عن ذلك من نمو بذور فنائها بما توجده من كراهية لسياستها حول العالم وبما يهيئة ذلك الظلم من مناخ لنهوض الشعوب لرفع الظلم عن نفسها. واقتصادياً كان هؤلاء الخبراء يرون ما يميز أمريكا من نهم الاستهلاك وما تبع ذلك من عجز الميزان التجاري الأمريكي مع اليابان وألمانيا وأخيراً الصين، فكان ذلك يراكم الديون الداخلية والخارجية على كاهل الأمريكيين، وبدل أن ترتفع الضرائب في أمريكا لتغطية تلك الديون كانت تنخفض بشكل ملحوظ في صلافة أمريكية لا ترى الحل لمعضلتها تلك إلا في نفط العراق والخليج وباقي خيرات العالم، فكانت تهز الاقتصادات العالمية والتي ربطتها بالدولار منذ عقود بتلاعبها بسعر الفائدة وبقيمة الدولار فتجبرها على تحمل الأعباء الأمريكية مع الأمريكيين، ولم تكن دول العالم بقادرة على فعل شيء يرد صلف أمريكا هذا.

 والذي زاد من طمع أمريكا وجشعها أنها كانت متاكدة من قدرتها على تحقيق مصالحها حول العالم بعد زوال الاتحاد السوفييتي إذ أصبحت سيدة العالم بلا منازع. وكانت الأطماع الأمريكية تتحول الى سياسات فعلية توظف لكسر الحواجز عبر العالم لا سيما عبر سياسات كلينتون المعروفة بالعولمة، وفعلاً تمددت الشركات الأمريكية وعبرت كافة القارات دون عوائق جمركية أو سياسية جدية بسبب سطوة أمريكا في منظمة التجارة العالمية والتي تمكنت أمريكا من خلالها من كسر القيود الوطنية الحمائية لكافة اقتصادات العالم تقريباً. وقبل كل ذلك فقد عملت أمريكا بصلف لا نظير له على التنصل من أهم بنود تفاهمات بريتون وودز والتي صنعتها بنفسها فقامت بإسقاط ارتباط الذهب بالدولار لأنها قد صارت ترى مصلحلتها بحمل دول العالم للتعلق بالدولار وبالاقتصاد الأمريكي وربط تلك الدول بهما ربطاً محكماً لتبقى أمريكا صاحبة الكلمة الأولى في السياسات الاقتصادية والنقدية في العالم، وهكذا كان. فكان الخبراء يدركون خطورة الأوضاع الاقتصادية الناشئة على العالم ويدركون خطورتها على الاقتصاد الأمريكي نفسه.

وأما المسلمين المبدأيين فقد كانوا واثقين بما يحملونه من حق وببطلان ما يحمله غيرهم. والحقيقة التي يجب إبصارها أن المبدأ الباطل يحمل في ذاته بذور فنائه. فروسيا قد علت بالشيوعية ما يقارب القرن وغزت الفضاء وبنت من القوة الاقتصادية والعسكرية ما لم يكن يحلم به الروس عبر تاريخهم، لكنها كانت تحمل بذور مقتلها في ذاتها، فانهارت بتخطيط من قيادتها لأن تلك الأيديولوجية بعد أن جربها الروس قد اصطدمت بفطرتهم التي خلقهم الله عليها من غرائز التدين والبقاء، فكان إنكارها للملكية الفردية سبباً في هبوطها المدوي لا سيما عندما توقف اندفاع الشعب معها لحشد الطاقات الاقتصادية اللازمة لمواجهة برنامج الرئيس الأمريكي ريغان حرب النجوم، وفي ظل ما تفرضه الشيوعية من وجوب صراع الراسمالية فإن ثغرة عميقة قد فتحها سباق التسلح الأمريكي عن قصد مبدع، تلك الثغرة التي لم تبق لقيادة الحزب الشيوعي مخرجاً سوى الانسحاب من ساحة الصراع وإخلاء الساحة لللاعب الأمريكي المنتصر والانكفاء على الاصلاحات الداخلية والغوص في أتون المشاكل التي لم يولد حلها إلا مشكلة أعمق أثراً من سابقتها. كل ذلك رغم تحويل الشيوعية في روسيا ومنذ عقود كأداة لخدمة الدولة الروسية. وهؤلاء المسلمون الذين رؤوا تحطم روسيا على قلعة أيديولوجيتها واثقون تماماً بأن أمريكا والغرب إما أن يتحطموا ذاتياً على قلعة راسماليتهم وينكفؤون على مشاكلهم الداخلية وإما أن يتحطموا أمام جيش عرفوه عبر التاريخ الطويل بأنه جيش لا يغلب.

 والآن وقد ضربت الأزمة المالية الأمريكية اقتصادها واقتصادات العالم المرتبط بها فقد أصبح البحث عن بديل للرأسمالية حديث المسلم وكذلك حديث الغربي. وما يهمنا هنا أن بريق المبدأ الرأسمالي بسبب هذه الأزمة قد خفت كثيراً فأصبح أصحابه وعلى راسهم جورج بوش في خندق الدفاع على أمل أن لا يفقد العالم ثقته بما يسمونه اقتصاد السوق والرأسمالية بنموذجها المعولم، وإذا قرن ذلك بانهيار الدعوات الأمريكية والغربية للالتزام بنهج الديمقراطية وحماية حقوق الانسان، وأصبح أبو غريب وغوانينامو في العراق وقلعة جانغي في أفغانستان وصمة عارٍ أبدية في جبين أمريكا خاصة والغرب عامة، فإن الأيديولوجية الرأسمالية تكون قد سقطت نهائياً باعتبارها كينونتها أحد عناصر القوة للدولة الأمريكية وللغرب عموماً. وبذلك فإن الأزمة المالية مقرونة مع فضائح أمريكا في العراق وأفغانستان تكون قد أكملت حلقة القضاء على أحد عناصر قوة أمريكا دولياً.

إن المتابع لأخبار الأزمة المالية الحالية والتي بدأت بانهيار سوق الرهن العقاري فتبعتها إفلاسات في شركات ميزانياتها أكبر من موازنات الكثير من الدول يجد أنها قد ضربت بقوة عميقة مجموعة المعاملات المالية التي يحرمها الاسلام العظيم، فوجهت ضربات شبه مميته لأسواق الربا في البنوك وصناديق الاقراض، وكذلك شركات التأمين، ووجهت ضربات بالغة الألم لأسواق الأسهم أو ما يسمونه البورصات وكذلك ضربت أسعار السلع التي يجري عليها مضاربات شديدة كالنفط، وكان لافتاً دعوة رئيس الوزراء الياباني للمستثمرين اليابانيين باستمرار الاستثمار في البورصة وعدم اعتبارها سوقاً أجنبياً عابراً، في دلالة لا تخلو من تعبير على عمق النفور من هذه الأسواق والتي سببتها الأزمة المالية، ولعل في ذلك إشارة بأن شدة الحرام توجب شدة النقمة من أمور تتجمع بقدر الله من حيث لا يدري أصحاب الحرام تماماً كإشارة الايدز لذوي الزنا.

وإذا كانت روسيا وهي ترى السوس الذي بدأ ينخر عظمة أمريكا على أثر فشلها في العراق قد قامت باستغلال الأحداث الجورجية لتعود بقوة للواجهة الدولية متحدية التفرد الأمريكي بالقرار الدولي، فإن فرنسا ومعها الدول الأوروبية تقود حملة شديدة الوقع على عظمة أمريكا، هذه الحملة التي تهدف بوضوح الى تفكيك النظام الاقتصادي الدولي الذي بنته أمريكا منذ عقود. وعلى الرغم من فرنسا مثلها مثل أمريكا تهتز بفعل هذه الأزمة إلا أنها مؤهلة للنجاح بسبب ظروف متتنوعة في رفع الظل الاقتصادي الأمريكي عن جزء غير يسير من العالم. والمتابع للحزم الفرنسي في ذلك يجد أن ذلك حقيقة قد بدأت ترسم كوقائع على الأرض بدأً من أوروبا نفسها، فقد أقنعت شريكاتها الأوروبيات بالرد بالمثل على السياسة الأمريكية لانقاذ اقتصادها وبعمق يقضي على إنجازات أمريكية قديمة إذ بلغت موازنة الانقاذ الأوروبية ما يزيد على ثلاث أو أربع أضعاف مثيلتها الأمريكية رغم رفض ألمانيا الخطة في البداية من حيث المبدأ، فقام ذلك بإعادة التوازن بين الدولار واليورو بما يشجع الصادرات الأوروبية ويوجد الصعوبات أمام السلع الأمريكية في منطقة اليورو.

ومن أجل إدراك المدى الذي يمكن به إلحاق الأذى بالهيمنة المالية الأمريكية في العالم فإنه من الجدير ذكره أن نهم الاستهلاك الأمريكي ومصاريف المغامرات العسكرية الأمريكية كانت ترهق كافة بلدان العالم المرتبطة بالدولار، ولكن ذلك كان تدريجياً، فكانت أمريكا تستطيع خلال الفترة الفائتة أن تقنع الدول الأخرى بالصبر وإن كانت تبرز العصا أحياناً مثل عصا تسمم الألعاب الصينية وحقوق الانسان في دويلات الخليج العربي عندما أخذت هذه الدول تعلن أنها بصدد التفكير في فك ارتباط عملاتها بالدولار أو تسعير النفط بغير الدولار. وكان إغراء السوق الأمريكية للمصدرين الصناعيين في اليابان والصين مقروناً مع عصا محتملة من أمريكا كفيلاً بإقناع هاتين الدولتين خاصة بشراء سندات الخزينة الأمريكية أي إعادة الأرباح التي جنوها من أمريكا اليها لقاء ثمن ربوي بخس، وأما دويلات الخليج فكانت لا حول لها ولاقوة وكانت تقبل بشراء سندات الخزينة تلك، يضاف الى ذلك أن ما يسمى بالصناديق السيادية لبلدان الخليج لا يمكنها الخروج من السوق الأمريكية وأن تسميتها بالسيادية في أسواق المال لا يزيد عن تسمية أصحابها بالدول المستقلة أمام الجيوش والقواعد العسكرية الأمريكية فيها.

وأما الجديد بعد الأزمة المالية فهو أن امريكا قد تسببت بخسائر خيالية لاقتصادات الدول بشكل عام ودفعة واحدة، وقد سبب ذلك نقمة عالمية على ضعف الرقابة الأمريكية على رأسمالييها، تلك النقمة التي أوجدت سبباً كافياً لبلدان العالم في محاولة هي مؤهلة للنجاح للتخلص من النظام الأمريكي في المال وفي الاقتصاد، وذلك على النحو التالي:

أولاً: أخذت السوق الأمريكية تقل جاذبيتها للدول الصناعية بسبب الأزمة المالية ودخول أمريكا في ركود فعلي للربع الثالث من هذا العام بعد أن كان ذلك مجرد مخاوف فأخذت تلك الدول تفتش لنفسها عن أسواق بديلة. وبهذا يخف تلعقها بالدولار، وطالب رئيس الوزراء الروسي بوتين باعتماد الروبل واليوان في التعاملات الصينية الروسية ونبذ الدولار. وإنه وإن كان الخبراء يتوقعون سعراً مرتفعاً للدولار في الفترة القصيرة القادمة إلا أن أمريكا ستواجه موجات من الدولارات العائدات اليها من خزائن الدول بسبب التناقص المرجح وقوعه في التعاملات الدولارية. وإذا كان خفض سعر الفائدة الأمريكة قد اقترب من الحد الأدنى فإن قدرة البنك المركزي فيها قد اقتربت من الصفر في التحكم باسواق المال مما يفتح الباب على مصراعيه أمام فوضى متوقعة في الحركة النقدية داخل أمريكا أو المرتبطة بالدولار عالمياً. وفيما لوتجرأت دول النفط على تسعيره بغير الدولار وقد تدفعها الدول الأوروبية الطامحة لزيادة نفوذها في السياسات النقدية الدولية فإن ذلك سيشكل ضربة بالغة القسوة للدولار بوصفه رمز العظمة الاقتصادية الأمريكية.

ثانياً: أصبحت أمريكا في وضع المستجدي للأموال فتطلب تارة من الصين التي تختزن ما يقارب تريليوني دولار تحمل مسؤولياتها في إنقاذ الاقتصاد العالمي، وتارة عبر إرسال المسؤولين رفيعي المستوى لاستجداء الأموال كما في محاولة روبرت كميث نائب وزير الخرانة إقناع بلدان الخليج بالاستثمار في السوق الأمريكية قائلاً: بلادنا لا يمكنها الانطواء على نفسها ويجب زيادة التعاملات بين الدول لتقدم الاقتصادات. ومن الجدير ذكره ورغم خسارة البورصة في الصين وتأثرها بالأزمة المالية إلا أن الصين قد تكون الربح الأعظم من الأزمة المالية، وأن المسؤولين الصينيين لم يجهزوا الخطط بعد لاغتنام الغنيمة المفاجأة وغير المتوقعة، وأخذ بعض هؤلاء المسؤولين يتحدثون عن شروط صينية لإنقاذ أمريكا قد يكون أدناها إعادة تايوان للحضن الصيني، وتحدث مسؤولون يابانيين عن الفرصة السانحة لشراء أمريكا وأوروبا أي نهب الخيرات فيها. وفي هذا الجانب فإن موقع الصين واليابان قد سحب الى أعلى بفعل هذه الأزمة المالية بسبب خزائنها المملوئة بالعملة الصعبة.

ثالثاً: أخذت الأزمة المالية تضرب الشركات والصناعات المنتجة في الغرب ولم تتمكن أمريكا وكذلك أوروبا من حصرها في قطاع الربا والأسهم والتأمين فوقفت مدينة ديترويت عملاق صناعة السيارات الأمريكية على حافة الافلاس وأعلنت عن خطط طوارئ تقوم بموجبها بتسريح عشرات الآلاف من الموظفين. وبهذا فإن موجة من البطالة الشديدة يقدر عمقها البعض ب 25% قد بدأت تضرب أمريكا وأوروبا. وبالاضافة الى مشاكل الفقر التي ستبرز لا سيما في أمريكا وما يتبعها من مشاكل مجتمعية من تفاقم الجريمة التي تضاف الى الضعف الاقتصادي فإن أمريكا قد أصبحت مرشحةً للانكفاء على الداخل، وإذا ما صدت محاولات أمريكا للاستعانة بأموال الصين واليابان وبلدان الخليج فإن توجه أمريكا للعزلة سيتعزز وبذلك تسحب نفوذها من العالم بما تمليه عليها مشاكلها الداخلية. وقد يكون أعتماد أمريكا على آلتها العسكرية في السنوات القادمة ظاهرة بارزة في محاولة للابقاء على نفوذها وتعويض ميزتها الاقتصادية المفقودة إلا أن تورط الجيش الأمريكي في عراق ثانٍ قد يزيد من توجه أمريكا نحو العزلة والانسحاب من العالم، والذي لن يخلو من حروب وسيل من دماء المسلمين.      


وربما تقدر الخسائر الدولية لأمريكا في النفوذ المالي بما يجوز تشبيهه بنتيجة حرب عالمية خاسرة لها لعمق الضرر الذي لحق بها وسيلخق بها نتيجة ذلك. ذلك الضرر والنكسات التي سيعمل الرئيس الأمريكي القادم على محاولة الحد منها بما يشغله عن المبادرة في المسائل المالية أو ما هو أعمق من ذلك.   
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق