الأحد، 20 مارس 2011

إرهاصات وقوف الاسلام على عتبة النصر العظيم

آذار 2008م

حالة الإرهاق والاستنزاف الجديدة للغرب في العالم الاسلامي

يرصد هذا المقال حالة جديدة وغير مسبوقة من استنزاف الغرب وإرهاقة في العالم الاسلامي، وأن هذه الحالة تقود الغرب الى الضعف والمسلمين الى القوة، وهي ظرف جديد تحكيه الوقائع على الأرض لتؤكد قرب الفرج وأن المسلمين بإذن الله على موعد غير بعيد مع نصر عظيم.

عقد حلف شمال الأطلسي في بدايات شهر شباط مؤتمراً في ليتوانيا كان عنوانه أفغانستان، وبعدها أيضاً كانت وزيرة الخارجية الأمريكية رايس بصحبة وزير الشؤون الخارجية البريطاني ميليباند في زيارة لأفغانستان، وانعقد بعد ذلك مؤتمر ميونخ لمناقشة سياسة الأمن الدولي وهدد وزير الدفاع الأمريكي بأن أفغانستان قد تقسم حلف الاطلسي. كانت الأجواء مشحونة بقوة بين دول حلف الأطلسي في المؤتمرين (ليتوانيا وميونخ) بشأن زيادة عدد القوات في أفغانستان لمواجهة تنامي قوة حركة طالبان، فدول أوروبا عموماً غير متفقة مع واشنطن بشأن زيادة عدد قواتها هناك، والقوات الألمانية تتواجد في المناطق الشمالية الآمنة من أفغانستان وترفض أي فكرة لنقل قواتها الى الجنوب أو الشرق حيث يتزايد النشاط العسكري لطالبان، وفي الجنوب تقف القوات الأمريكية والبريطانية والكندية وحدها في المواجهة، والقوات الكندية هددت بأنها بشأن سحب قواتها العام القادم إذا لم يتم إرسال تعزيزات من دول الناتو لتلك المناطق الساخنة. وقبل الشهر من الآن طردت حكومة قرضاي في أفغانستان بعض الأوروبيين (منهم إنجليزي واحد على الأقل) بتهمة مفاوضة حركة طالبان دون علم حكومة قرضاي المنصبة من واشنطن. وفوق كل ذلك ذكر مسؤولون أوروبيون بأن الولايات المتحدة تعتبر نفسها في حالة حرب في أفغانستان، وكأنهم يودون التأكيد بأن الحكومات الأوروبية لديها نظرة مختلفة للوضع في أفغانستان.


إن هذه الحالة من التردد الأوروبي وما يمكن أن يرقى الى تفسخ جوهري في دول الناتو من حول القيادة الأمريكية إذا ما قرن بمؤشرات أخرى يمكن النظر اليه باعتباره مراجعة أوروبية شاملة لسياساتها في المنطقة ومراجعة لأبعاد التصاقها بسياسات الولايات المتحدة. ويستحيل أن تكون تلك المراجعات بعيدة عن عرض أسامة بن لادن للدول الأوروبية بمراجعة سياساتها لأن العدو البعيد سينهزم ويولي الأدبار عبر المحيطات ويبقى الجيران لتصفية حساباتهم. بالتأكيد فإن الدول الأوروبية لن تعترف بأن قول بن لادن هو السبب، وهذا صحيح، لأن المشكلة ليست مع تنظيم القاعدة لوحده، بل المسألة في علاقة الأمم الأوروبية بالأمة الاسلامية أي أن أبعاد السياسات الأوروبية أشمل وأعمق وأبعد مدىً، ولو كان الوضع مقتصراً على الجانب الأوروبي لوحده لكانت المسألة مسألة تغيير اتجاه في كتلة معينة من الدول هي الدول الأوروبية. لكن بالتدقيق الشامل في آثار الأحداث التي تلت 11 سبتمبر 2001 وعمق الأخطار التي تواجه الغرب فإن المسألة ترقى الى درجة يمكن تسميتها بالحالة الجديدة من القوة والضعف في الدول الاستعمارية عموماً.

أما كونه غير مقتصر على الدول الأوروبية فإن أصواتاً كبرى في الولايات المتحدة تدعو الى التصالح مع العالم الاسلامي بعد الأزمات التي عصفت بأمريكا نتيجة فشلها في العراق أولاً وبدرجة أقل في أفغانستان، وفي إسرائيل فإن المخاوف من المستقبل وتزايد المخاطر التي تواجه الدولة اليهودية قد أصبح مأزقاً جديداً يواجه الدولة ولكنه هذه المرة عصي عن أي حل يمكن أن يقنع اليهود. وبهذا فإن مجمل القوى الغربية المحتلة والمستعمرة للمنطقة الاسلامية قد أخذت تنتابها حالة جديدة لا سابق لها في التاريخ المعاصر، هي حالة الاستنزاف والإعياء السياسي والعسكري.

والمراقب للسياسة الدولية في الفترة الأخيرة يجد تركيزاً غير مسبوق في الصراع الأمريكي الأوروبي بل والصيني في إفريقيا، يلاحظ بأن أمريكا وأوروبا تقوم بنقل سياساتها الى أفريقيا دون أن تحل القضايا المركزية الساخنة في المنطقة الاسلامية. فأمريكا تحوم الدول الأفريقيا لإيجاد دولة تقبل بأن تكون مركزاً للقيادة العسكرية الجديدة التي أنشأتها أمريكا لجيوشها في إفريقيا. وإذا تجاوزنا قليلاً باعتبار أن الصومال وكينيا وتشاد وغيرها من البلدان الأفريقيا هي جزء لا يتجزء من العالم الاسلامي إلا أن واقع هذه البلاد يختلف عن واقع بلاد المركز في العالم الاسلامي فنشطت في هذه المناطق السياسات الاستعمارية وأثارت الحروب الأهلية والبينية داخل الصومال وبينه وبين إثيوبيا فقامت إثيوبيا باحتلال الصومال، وبسبب الأوضاع المضخمة من الدول الاستعمارية في دارفور نشط الصراع على تشاد، وفي كينيا نشأت الحرب الأهلية في أعقاب الانتخابات الرئاسية، ولم يهدأ أبداً الوضع في جنوب السودان وفي دارفور وأصبح نقطة ساخنة وبؤرة للتدخلات الدولية ونشط الاتحاد الافريقي وأخذ يرسل الجيوش الى المناطق الساخنة.

 وفي غرب أفريقيا فقد ترسخ الانقلاب في موريتانيا، وأخذت تنشط فيها مجموعات إسلامية تستهدف الغربيين. كل ذلك يشير بوضوح الى احتدام الصراع الاستعماري على إفريقيا، وهذا مشاهد محسوس، ولكنه من زاوية أخرى يعتبر نقلاً للصراع على النفوذ من المنطقة الاسلامية الى أفريقيا.  فالغرب قد أضاف الى المسائل المستعصية في الشرق الأوسط كالقضية الفلسطينية التي تجاوزت القرن العشرين دون أن يجد لها الغرب حلاً قضايا جديدة هي العراق وأفغانستان ، والغرب غير قادر على تسوية أي من تلك القضايا الكبرى وتركها بدون حل لأنه يدرك أن حلها غير ممكن في المدى المنظور، فأصبحت القضية الفلسطينية مع العراق وأفغانستان تزيد في سخونة الأوضاع في المنطقة الاسلامية وتزيد من الصعوبات التي تعاني منها الدول الاستعمارية في المنطقة وتزيدها إعياءً واستنزافاً، بل إن هذه القضايا لا سيما الجديد منها هو الذي عرى الدول الغربية وكشف عن ضعفها، وحملها الى اليأس من العالم الاسلامي والانتقال الى مناطق أخرى كأفريقيا. أي أن الفشل في حسم المواقف في العراق وأفغانستان هو الذي دفع الدول الاستعمارية أمريكا وأوروبا الى البحث عن الاستعمار السهل في أفريقيا.

ومن أجل التفصيل لا بد من بحث المسألة على الأسس التالية:
تعريف الاعياء السياسي
هل أمريكا والغرب متعبة في العراق وأفغانستان (والسعودية وفلسطين) وغيرها وكيف كان ذلك؟
القوة الذاتية في العالم الاسلامي    
الآثار القادمة لذلك على الغرب وعلى المنطقة.

وقبل تفصيل الإعياء في السياسات الغربية في العالم الاسلامي لا بد من إدراك واقع الإعياء ومدى خطورته. إن الإعياء والإنهاك بمعنىً واحد وإن كان الإنهاك يعبر عن درجة أعلى من الإعياء، والإعياء حالة غير صحية أي حالة مرضية تصيب صانع القرار العسكري والسياسي فتجعل قواه المعهودة غير قابلة للعمل والانتاج كما في وضعها الطبيعي، وهذا يعني أن نفس القوة التي كانت تحقق الهدف فيما مضى لا يمكنها بحال أن تحققه في وضع الإعياء فيضطر صاحب القرار الى زج قوى أكبر وأكثر في ساحة الصراع، وأعلى درجات الإعياء أن يرى صانع القرار أن كامل قوته غير قادرة على تحقيق الهدف المنشود، عندها ينتقل الى نوع من اليأس في إنجاز الهدف فيغلب التردد وعدم الحزم وقلة الثقة على تصرفاته، والذي يسبب ذلك عادةً هو الفشل المزمن إذ إن الفشل المنفرد يمكن تجاوزه، لكن الفشل تلو الفشل يقود الى حالة من الشلل في إدارة أزمة ما.
فمثلاً استخدام إسرائيل للقوة المفرطة تجاه العرب كان يخلق مناخاً رادعاً يمنع العرب من مهاجمة إسرائيل بشكل جريء، فكانت سياسة إسرائيل في دفع العرب عنها هي القوة الرادعة، لكن ذلك قد أخذ يتغير منذ سنة 1987م حينما نشبت الانتفاضة الفلسطينية الأولى وأخذ الأطفال في فلسطين يلاحقون الجندي الاسرائيلي بالحجارة فزال حاجز الخوف وضعفت هيبة اليهود وجيشهم في نفوس الناس واستمرت الأعمال العسكرية تتصاعد بجرأة أكبر داخل فلسطين ضد الجيش اليهودي خلال الانتفاضتين وما بينهما، ومن مشاهد الضعف اليهودي أن مستوى التدريب الفعلي لدى جنوده قد صار محصوراً الى حد كبير في ملاحقة الأطفال الفلسطينيين واعتقالهم، واعترف اليهود بأن قوة الردع الاسرائيلية لم يعد لها أي فعل عند الفلسطينيين ولكنهم استمروا يعتبرونها فعالة على المستوى الخارجي في المحيط العربي والاسلامي. ولكن تبين فيما بعد بأنها قد سقطت نهائياً بعد أن خطف حزب الله جنوداً إسرائيليين وقامت إسرائيل لتخوض حرباً شاملة في لبنان صيف سنة 2006م وفشل الجيش الاسرائيلي فشلاً ذريعاً في تحقيق أي من أهدافه في لبنان. ولعل شدة لهجة تقرير فينوغراد الصادر في كانون ثاني 2008م في إسرائيل يعبر عن مدى خيبة أمل اليهود من جيشهم وساستهم.
والمراقب لمواقف السياسيين في الدولة اليهودية يكاد يرى بأن الدولة على حافة الشلل بسبب الفشل في الحملات الأمنية الاسرائيلية في فلسطين ولبنان ووقوف اليهود مبهورين بالإنجازات النووية الايرانية عاجزين عن القيام بأي تصرف فعّال وأن حلاً لقضية دولة اسرائيل وأمنها لم يعد يرى في الأفق القريب والبعيد لدى هؤلاء السياسيين.

والذي يدفع عادةً الى حالة الإعياء السياسي أحد سببين أو كلاهما، الأول: عدم الحنكة في إنجاز المهام، وهذا ما يكون عادةً نتيجة ضعف القدرات الفكرية والسياسية والعسكرية لدى القائمين على المسائل السياسية والأمنية، ومن أبعاد ذلك فإن هذه القوة المبادِرة لا تكون قادرة على تقدير المخاطر والعقبات، وهذا يحدث للدول التي تؤخذ الحيوية تخبو فيها وتضعف فتقوم بالمبادرة لأنها تاريخياً كانت هي القوة المبادِرة ويجب عليها أن تستمر في ذلك، لكن نتيجة عدم تقديرها للأمور حق قدرها تصبح عاجزةً عن تقدير القوى اللازمة لها لتحقيق أهدافها الخارجية أو لدرء المفاسد عنها.
 فمثلاً الدولة العثمانية كانت ترى التنافس والتناحر بين الدول الكبرى في أوروبا وكانت قضيتها أن تمنع الدول الطامعة من القضاء عليها وكان مصدر خوفها يتركز في جانب روسيا القيصرية، فقدرت أن بريطانيا أو فرنسا وقد خاضتا معها حرب القرم ضد روسيا سنة 1876م تستطيع أن تمنع عنها روسيا، فركزت الدولة العثمانية جل سياستها في استرضاء هاتين الدولتين وإعطاء الامتياز تلو الامتياز لهما، وأغفلت أن تفعيل قواها الذاتية وبعث الحيوية في أمتها كفيل بحفظها من أعدائها، فدارت الأيام فإذا بفرنسا وبريطانيا هي التي تقضي عليها وتلتهم معظم أراضيها وتوكل لمصطفى كمال القضاء عليها قضاءً مبرماً وتمده بالدعم اللازم.

ومثلاً كانت بريطانيا والدول الأوروبية بعد ضم العراق للكويت سنة 1990م تقدر بأن العقدة الفيتنامية لا تزال تتحكم في السياسة الأمريكية فقدرت بأن أمريكا لن تشن حرباً بريةً ضد الجيش العراقي، فقامت هذه الدول الأوروبية بتشجيع الرئيس العراقي  للصمود ورفض المقترحات الأمريكية، وكان العالم وقتها وهو يرقب اجتماع وزراء الخارجية العراقي طارق عزيز والأمريكي جيمس بيكر في فينا لمحاولة منع الحرب ينظر الى العراق باعتباره قوةً كبرى، فتفاجأ العراق وتفاجئت الدول الأوروبية بأن الولايات المتحدة التي حشدت ما يزيد عن نصف مليون جندي أمريكي في الخليج كانت قد تخلصت من العقدة الفيتنامية وشنت حرباً هي الحرب الأمريكية الأولى بهذا الحجم بعد حرب فيتنام حتى تم إخراج العراق فعلاً من الكويت. وكانت الدول الأوروبية وكذلك صدام حسين يغفلون عن الدافع الحقيقي للحرب عند الأمريكيين، فلم تكن المسألة النفط لوحده، بل كانت أكبر من ذلك بكثير، فبعد أن تراءت نهاية الاتحاد السوفييتي فإن واشنطن كانت تترقب حدثاً تثبت من خلاله قيادتها المنفردة للعالم، فكانت في حاجة ماسة لحدث مثل احتلال العراق للكويت لتثبيت تفردها بالسياسة الدولية بعد أفول النجم السوفييتي. وهذا ما كانت الدول الأوروبية عاجزةً عن إدراكه لدى الأمريكان فخسرت كثيراً من نفوذها في الخليج، وعجزت هذه الدول عن ملء المقعد الشاغر في السياسة الدولية الذي خلفته الاصلاحات السوفييتية بقيادة غورباتشوف، فتوسعت اليه أمريكا لملئه وطردت عنه الطامعين من الدول الكبرى.

وفي الحرب الأمريكية الثانية على العراق سنة 2003م كان الرئيس صدام حسين يتوقع بأن نظامه سيبقى، ولم يجهز نفسه لغير هذا الاحتمال، وكان رد الرئيس العراقي غير مكترثٍ بنصائح وزير الخارجية الروسي بريماكوف بأن أمريكا عازمةً على تغيير النظام في العراق هذه المرة ، فقال صدام حسين: بأن النظام في العراق ها هو قد عاش عقداً بعد نصائح بريماكوف الأولى عندما كان مبعوثاً سوفييتياً لبغداد أثناء الحرب الأمريكية على العراق سنة 1991م وأن هذا النظام سيعيش كذلك بعد هذه الحرب الأمريكية (سنة 2003م)، وربما كان العراق منخدعاً بوهم الدعم الأوروبي الخفي له، فقد كانت أوروبا أعجز من أن تستطيع الوقوف في وجه السياسات الأمريكية، وسقط النظام العراقي وأعدم صدام حسين ورفاقه، وكل ذلك نتيجة عدم تقدير حقيقة الخطر وعدم تقدير ما يلزم القيام به لدرء الخطر، فكان صدام حسين يستثني كلياً مسالة قيامه بالهجوم من أجل الدفاع بل وعاجزاً كذلك عن إدراك أن أمريكا تقوم ببناء شبكة من العملاء داخل الجيش العراقي أثناء حملات التفتيش، فاستمر النظام يثق في قادته العسكرية حتى قام هؤلاء بتسليم بغداد للجيش الأمريكي على طبق من ذهب.
 
وهذه أمثلة ثلاثة، وغيرها كثير مما ليس المكان لسرده على أثر الضعف الفكري والسياسي في تقدير الأخطار، وما يمكن أن يؤدي اليه من إعياء وإنهاك ومهالك تردي صاحبها. وإذا كانت الدول الأوروبية قد أصابها الفشل تلو الفشل في سياساتها الدولية ولم ينجها انقيادها الظاهري خلف أمريكا فسماها وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد بأوروبا القديمة (على غرار الدولة العثمانية بالرجل المريض) وهذا ليس بالجديد إلا أن الجديد هو بداية النهاية للعصر الأمريكي أيضاً في العالم الاسلامي ونهاية عصر القوة اليهودية التي يشاهد ذبول زهرتها.

وأما السبب الثاني في الإعياء السياسي فإنه زيادة قوة الخصم بشكلٍ لم يكن منظوراً من ذي قبل. وفي هذه المسألة بعدين فإن كانت هذه الزيادة قد حصلت بشكلٍ بطيء فإن الطرف المبادِر (القوة العظمى التقليدية أو السابقة) لا بد أن يكون قد كشفها، لأن القوى الكبرى عادةً ما تكون متنبهةً لكل شاردةٍ وواردة في مناطق نفوذها، وإذا ما فشلت القوى الكبرى في إدراك ذلك كفشل الغرب في إدراك نمو القوة في العالم الاسلامي وحجم هذا النمو فإن ذلك يعود الى السبب الأول وهو قلة الحنكة لدى القوى الكبرى وضعف قدراتها على الفهم. وهذا ليس بالضرورة ضعفاً فكرياً شاملاً، إذ يمكن للغرور أن يقزم من حقائق قوة الآخر، ولكن النتيجة تكون كارثية.
 فمثلاً غرور القوة لدى الدولة العثمانية حين رأت نفسها تتوسع في أوروبا إنطلاقاً من البلقان وشمال البحر الأسود ومن القفقاز وتضرب أوروبا من الجنوب فتحتل مدناً في إيطاليا (دولة البندقية وقتها) وجنوب فرنسا قد أعماها عن إدراك أبعاد التحول والنهضة في أوروبا، فلم تقم بأية أعمال ذات بال على مستوى تقوية الداخل كرد على تقوية أوروبا من الداخل واستمرت مغرورة بقوة جيشها، حتى انقلبت الآية وانحسر النفوذ العثماني في أوروبا بل وأصبحت الدولة العثمانية نفسها منطقة نفوذ للدول الأوروبية.

وقد تكون مراكز الأبحاث الأمريكية تصدر تقاريرها للإدارة الأمريكية بشكلٍ لا ينم عن ضعف فكري في الولايات المتحدة إلا أن إعلان الرئيس الأمريكي بوش الابن في أيار سنة 2003م انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية في العراق ينم إما عن عدم إدراكه لحقيقة قوة الأمة الاسلامية الآخذة في التعاظم بما فيها العراق، وحقيقة أن هزيمة النظام العراقي لم تكن هزيمة للأمة، وأن الأمة قادرة على مواصلة القتال حتى بعد أفول الجيش العراقي والحرس الجمهوري، وربما كان تصريحه ينم عن غرور القوة الأمريكية فلم يعد الرئيس الأمريكي يرى وزناً لأي قوة أخرى كما كانت الدولة العثمانية ترى الأمور في القرن الثامن عشر. فنشبت المقاومة في العراق لتربك السياسة الأمريكية بالكامل وتنهك قدرات الجيش الأمريكي بشكلٍ خطير.

فمثل هذه الزيادة في القوة يجب أن تدركها القوى المهاجمة لأن نموها ونمو أسبابها بطيء، وليس كمثل الفشل الألماني في روسيا أثناء الحرب العالمية الثانية، فذلك كان زيادة في القوة الروسية يصعب التنبؤ بمثلها، فقد كان للابتكارات العسكرية الروسية مثل صواريخ الكاتيوشا وغيرها أثناء الحرب التي دامت لسنوات على الأراضي الروسية بين الجيش الألماني والجيش الأحمر السوفييتي أثراً هائلاً في تغيير الاتجاه العسكري للحرب ليجد هتلر نفسه في برلين تحت نيران الجيش الأحمر الذي دفع القوات الألمانية الى الوراء عن روسيا واستمر يلاحقها حتى احتل العاصمة برلين. فمثل هذا النوع من زيادة القوة لدى الخصم يصعب التنبؤ به وقراءته واتخاذ الإجراء الملائم لمواجهته. فالذي أتعب الجيوش الألمانية هو الأسلحة السوفييتية المتطورة التي تم تطويرها أثناء الحرب، فلم يكن هناك خلل في ألمانيا في تقدير القوة الروسية عندما شن هتلر الحرب على روسيا (الاتحاد السوفييتي)، وإن كان يؤخذ عليه أنه لم يقدر قدرات الشيوعيين بقيادة ستالين على الصمود وأن ظنه بدفعهم للاستسلام نتيجة ملايين الروس التي قتلت ونتيجة حصار مدينة موسكو نفسها لسنوات واحتلال معظم الأراضي السوفييتية في أوروبا كان ظناً واهماً لأن ستالين كان سيصمد حتى لو خسر أضعاف أضعاف ما خسر من الأراضي والقتلى.

وبغض النظر عن طبيعة الزيادة في قوة الخصم سواء أكان سببها منظوراً أي قابلاً للحساب قبل الهجوم ولم يدركه الخصم نتيجة ضعف أو غرور، أو كانت طبيعة هذه الزيادة مفاجئة فإن فعلها واحد في الخصم. لأن الخصم الجاهز لضرب قوة ما سيعييه إن تبين له أن هذه القوة أكبر مما توقع، وإذا كانت هذه الزيادة في القوة كبيرة فإنها ستتجاوز إعياء العدو وإنهاكه الى دفعه الى الوراء وإجباره على التراجع أي هزيمته هزيمة منكرة.

وقبل الحديث عن الإعياء الغربي في العالم الاسلامي والذي أخذ يظهر بوضوح قوي بعد 11 سبتمبر 2001م لا بد من وصف سريع لحالة الغرب وحالة العالم الاسلامي مع نهاية القرن العشرين، أي على عتبة التغيير.

فالغرب عموماً لم يمتلك أي قوة جديدة تمكنه من تعظيم نفوذه في العالم الاسلامي وغير الاسلامي مع نهاية القرن العشرين، والقوة الأمريكية التي ظهرت بشكلٍ مخيف بعد 11 سبتمبر لم يكن فيها جديد، إلا أن الولايات المتحدة كانت واثقةً بأن تفعيل القوة التي تملكها يؤهلها لزيادة نفوذها في العالم الاسلامي، ومسألة القوة الأمريكية لم يتجاوز جديدها قوة الارادة السياسية في واشنطن ووجوب خضوع العالم لأمريكا باعتبارها الدولة الكبرى الوحيدة في العالم بعد سقوط القوة السوفييتية. وكان ذلك يتمثل في صعود المحافظين الجدد في أمريكا لسدة الحكم في ولاية بوش الأولى، فكانت ولايتي كلينتون تمثل قيادة أمريكا للعالم بوصفها الدولة الأكثر تفوقاً، ولكن باعترافها بموقع الدول الكبرى الأخرى، ولعل ذلك كان ناتجاً عن فشل إدارة بوش الأب في تجسيد التفرد الأمريكي في العالم. إلا أن المحافظين الجدد قد جسدوا ذلك عملياً بعد 11 سبتمبر بحربي أفغانستان والعراق.
 وقبل الخوض فيما نجم عن هذه السياسة الأمريكية المتفردة فإن الواجب ذكره أن القوة الحقيقة لأمريكا على الأرض لم يحصل لها أي زيادة لا في النفوذ ولا في القوة العسكرية توازي حجم الارادة الأمريكية الجديدة للتفرد بالعالم، وإن كان الساسة في واشنطن يتسلحون بالهوة الشاسعة بين القوة الأمريكية وغيرها من القوة الأخرى، وهذه حقيقة وإن لم تكن جديدة لا سيما وأن غياب القوة السوفييتية قد مضى عليها أكثر من عقد، ولم تعد عاملاً جديداً، إلا أن يقال بأن الولايات المتحدة كانت بحاجة الى هذه الفترة للتأكد من حقيقة الضعف الروسي، وهذا غير صحيح، لأن أمريكا قد انطلقت في محاولتها الأولى للتفرد بالعالم قبل تفكلل الاتحاد السوفييتي حينما أعلن بوش الأب سنة 1990م بعد قمة عقدها مع الرئيس السوفييتي غورباتشوف من هلسنكي بداية النظام الدولي الجديد فشنت بعدها حرب تحرير الكويت تجسيداً للتفرد الأمريكي وقيادة أمريكا للعالم بشكل منفرد، إلا أن أمريكا نفسها قد أثقلها ذلك ولم يكن لروسيا دور فيه، وعادت تراجع خياراتها أثناء فترتي كلينتون.
 ومن ناحية أخرى فإن الشرق الأوسط كان دائماً منطقة نفوذ غربية حتى إبان قوة الاتحاد السوفييتي، وأن القوة السوفييتية لم تكن معيقاً حقيقياً أبداً للسياسات الأمريكية في العالم الاسلامي. ولكن من الصحيح قوله بأن أمريكا بعد 11 سبتمبر كانت تريد القضاء على طموح الدول الكبرى كافةً بالعودة لرسم السياسة الدولية، تلك الدول التي كانت ترى بأن مقعد الاتحاد السوفييتي لا يزال شاغراً وأنها يجب أن تملئه، فأرادت أمريكا أن تقول لهم بأنه لا يوجد أي مقعد شاغر وأن نهاية القطبية الثنائية في السياسة الدولية بنهاية الاتحاد السوفييتي إنما تعني فقط تفرد أمريكا فيها، ولا تعني بحال استدعاء دول كانت كبرى في تاريخ ما قبل الحرب العالمية الثانية لتشارك أمريكا المنتصرة في رسم السياسة الدولية.

وزيادة على أن أمريكا لم يطرأ على قوتها الفعلية أي زيادة فإن الاقتصاد الأمريكي كان يعاني من مشاكل كبيرة ولكنها غير بارزة بسبب سطوة أمريكا وهيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي. ومن ناحية دولية فإن امريكا كانت تتخوف من الاقتصاد الأوروبي وظهور اليورو وما يمكن أن يحمله من مخاطر محتملة على وضع أمريكا الاقتصادي والنقدي من ناحية دولية. فكانت أمريكا ترى في حروبها في العالم الاسلامي تقوية للاقتصاد الأمريكي بدفع الشركات الأمريكية الى إعادة الاعمار في المناطق التي يدمرها الجيش الأمريكي من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تفرد أمريكا دون الدول الأوروبية بالنفوذ في مناطق النفط في الشرق الأوسط سيؤدي الى الإمساك بشريان أساسي للضغط على أوروبا سياسياً واقتصادياً.

هذا من ناحية واقع أمريكا، أما الدول الأوروبية فإن قوتها على الأرض اقتصادياً وعسكرياً لم يطرأ عليها جديد يزيد فيها، وإن كان أعظم ما استجد في أوروبا خلال التسعينات هو تكتل دولها في الاتحاد الأوروبي. لكن مع نهاية القرن العشرين لم يكن الاتحاد الأوروبي نداً لأمريكا، فقد بقيت الجيوش الأمريكية تتمركز في قواعد الناتو القديمة فوق الأراضي الأوروبية، ولم يفلح الاتحاد الأوروبي في بناء قوة عسكرية أوروبية، فظلت الدول الأوروبية تستظل بالمظلة العسكرية الأمريكية، وسياسياً فإن الدول الأوروبية بقيت تحاول الحفاظ على نفوذها أمام التمدد الأمريكي المستمر في العالم، ولكنها لم تنتقل الى المبادرة إلا بعد أن رأت الإعياء والإنهاك للولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، أي بعد سنة 2004م. وعليه فإن القرن العشرين قد انتهى وأوروبا لا يبرز فيها إلا كونها قوة اقتصادية يمكنها منافسة أمريكا في الاقتصاد فقط.

أما الدولة اليهودية ربيبة الغرب فإن القرن العشرين قد انتهى وقد أجبرت على إنهاء أحلامها التوسعية بشكلٍ أكيد. أما كيف كان ذلك، فإن هذه الدولة كانت قد توسعت كثيراً سنة 1967م في الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، وقامت بضم مدينة القدس والجولان اليها وأخذت تقضم الضفة الغربية وغزة وسيناء عبر الاستيطان، ولو كانت وتيرة الهجرة اليهودية كما ترغب دولة إسرائيل لكانت هذه المناطق الجديدة مناطق يهودية بالكامل. لم تغير حرب سنة 1973م كثيراً من أطماع اليهود الذين يسمون فلسطين أرض إسرائيل الغربية ويطمحون بدولتهم من النيل الى الفرات، لأن تلك الحرب سرعان ما آلت الى معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل سنة 1978م، وعلى الرغم من اقتلاع اليهود لمستوطنة يميت من سيناء بموجب تلك المعاهدة إلا أن أطماع إسرائيل لم تنته أبداً، فكان قادة الحركة الصهيونية الحاكمين في تل أبيب يودون تحييد مصر بوصفها القوة العربية الرئيسية من أجل إطلاق اليد الاسرائيلية في مناطق أخرى، وهذا ما كان سنة 1982م فقد وصلت الجيوش الاسرائيلية بيروت في حربها ضد التنظيمات الفلسطينية المسلحة.

حملت حرب 1982م الاسرائيلية في لبنان تطورات خطيرة على إسرائيل، فبالمقارنة بين حرب الأيام الستة سنة 1967م حيث هزم الجيش الاسرائيلي الجيوش العربية مجتمعة في ستة أيام واحتل مناطق شاسعة وبالغة الأهمية شعر الجيش الاسرائيلي بثقل لم يكن في الحسبان في ميزان التفكير اليهودي، فقد استغرق وصوله لبيروت ثلاثة أشهر، وثارت دعوات في إسرائيل لمحاسبة وزير الدفاع شارون بعد الحرب ليس على المجازر التي ارتكبها في صبرا وشاتيلا، وإنما على توقعه تحقيق أهداف الحرب بست سيارات عسكرية وفي فترة وجيزة. وليس هذا فحسب، فإن نشوب المقاومة الاسلامية اللبنانية بعد ترحيل منظمة التحرير الى تونس قد أجبر إسرائيل على الانسحاب من لبنان، ولولا ذلك لكانت تلك المنطقة كغيرها من المناطق المحتلة التي يستوطن فيها اليهود ويضمونها الى كيانهم.

وعلى الرغم من الانسحاب الاسرائيلي من معظم الأراضي اللبنانية التي احتلتها في تلك الحرب، وعلى الرغم من الثقل الجديد الذي خلفته المقاومة اللبنانية على التفكير التوسعي اليهودي إلا أن نشوب الانتفاضة الفلسطينية الأولى قد أسدى ضربة قوية للفكر الصهيوني التوسعي، فقد أوجدت هذه الانتفاضة شكوكاً كبرى لدى اليهود في حقهم في هذه الأراضي أي في الضفة الغربية وقطاع غزة، واستمرت تلك الانتفاضة تضرب الفكر الصهيوني حتى انتهت بموافقة اليهود في أوسلو على بناء كيان فلسطيني في الضفة الغربية وغزة ينتهي الى دولة فلسطينية. وعلى الرغم من أن هذا الكيان الفلسطيني (السلطة الفلسطينية) هي كيان مسخ لا يملك أي إرادة مستقلة عن اليهود، وعلى الرغم من أن الدولة الفلسطينية الموعودة لا تملك من مواصفات الدولة إلا الاسم إلا أن ذلك بشكله الشمولي يمثل نهاية الأحلام اليهودية بالتوسع، ويمثل ضربة للفكر الصهيوني ببناء دولة يهودية من النيل الى الفرات. أي أن القرن العشرين قد انتهى بنهاية هذه الأحلام اليهودية وأن دولة اليهود قد قطعت شوطاً في الجزر بعد نهاية المد الذي وصل أقصاه سنتي 1967م و 1982م.

وأما الدول الأخرى في العالم فإنها ليست هي المقصودة من بحث إعياءها في العالم الاسلامي، فإن الدول الغربية هي أوروبا وأمريكا وملحق بهما دولة اليهود، وأما روسيا فإن سياستها في العالم الاسلامي (خارج آسيا الوسطى والقفقاز) ليست سياسة يراد منها النفوذ الحقيقي، وأن روسيا بعد انسحابها من أفغانستان سنة 1989م لم يعد لها سياسة في العالم الاسلامي خارج الدول التي تفككت عن الاتحاد السوفييتي. لكن من الجدير الاشارة هنا الى دولة أخرى هي الصين قد دخلت الى العالم الاسلامي بنفوذها حديثاً، ولكن هذا الدخول محدود للغاية ولا يكاد يرى، وإن كان ناتجاً عن فشل السياسات الغربية في العالم الاسلامي، بل ودخلت الصين وهي ترى الإعياء الأمريكي والأوروبي في العالم الاسلامي، وهذا الوجود الصيني يلاحظ في السودان وبعض البلدان الأفريقية ويكاد لا يتجاوز النواحي الاقتصادية والحاجة الملحة لدى الصين للنفط وأما النفوذ السياسي فيحتاج الى مجهر لملاحظته لضعفه.

أما الإعياء الغربي في العالم الاسلامي فإن أعظمه هو الإعياء الأمريكي والذي هو جديد، وكذلك الإعياء والإنهاك لدولة يهود وهو مهم للغاية، وأما الإعياء الأوروبي فإنه ملحق بالإعياء الأمريكي وهو قديم ليس بجديد، وإن كانت السياسة الأمريكية سبباً مباشراً فيه، وسنركز أثناء البحث على الإعياء الغربي الشامل أي بما فيه الأوروبي الناتج عن بروز قوى ذاتية مناهضة للغرب الأمريكي والأوروبي في العالم الاسلامي. 

كانت ردة الفعل المحلية في العالم الاسلامي على الحرب الأمريكية والغربية عموماً على الاسلام تحت مسميات الارهاب هي الحدث الأعظم في العالم الاسلامي مع بداية القرن الحادي والعشرين. فبعد أن كان المفكرون في الغرب يراقبون تطورات ما أطلق عليه بالصحوة الاسلامية ويناقشون ما إذا انتقلت تأثيرات الصحوة الاسلامية من صعيد الالتزام بأحكام الاسلام في اللباس والعبادات الى مستوى التهديد للغرب أم لا؟ وكان هؤلاء المفكرون يرون بأن هذه الصحوة يمكن أن تنتقل الى التهديد للغرب إذا ما أصبحت قوة سياسية.

كان الغرب خلال التسعينات يرى تعاظم قوة الحركات الاسلامية في العالم الاسلامي وكأن هذه الحركات قد أصبحت بديلاً دولياً للحركات اليسارية والأحزاب الشيوعية المنهارة بسبب رياح الاصلاح التي عصفت بالاشتراكية في موسكو ودول المعسكر الاشتراكي وأسقطتها. وكان الغرب يدرك بأن الحركات العلمانية المتبقية في العالم الاسلامي والتابعة للغرب إن هي إلا الأحزاب الحاكمة والتي يعتبر الحكم وغنائمه من وظائف وأموال الفساد بالإضافة الى الدعم الغربي شريان حياتة هذه الأحزاب الوحيد. وقد كان ذلك قد ظهر مبكراً في العالم الاسلامي، فما كاد أن يمضي وقت على انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان حتى إنهار نظام نجيب الله في كابول أمام حركات الجهاد الأفغانية وانتهى النظام الحاكم المدعوم من موسكو وكأنه لم يكن له وجود في المجتمع الأفغاني، وهذا وإن كان خاصاً بالحزب الشيوعي الأفغاني إلا أنه بوصفه حزباً حاكماً كان شريان الحكم سبباً وحيداً في بقاءه، وفي الجزائر ما أن سمح النظام بإجراء انتخابات نزيهة حتى كادت جبهة الإنقاذ الاسلامية في الجزائر أن تمسك بكافة مفاتيح البلاد السياسية، ولكن النظام الحاكم قد انقلب على الانتخابات واندلعت الحرب الأهلية في الجزائر.
كانت هذه الأمثلة تدق ناقوس خطرٍ شديد في الغرب بأن العالم الاسلامي على حافة الاستقلال عن الغرب وأن الاسلام السياسي سيسيطر على مقاليد الأمور، وربما توقع الغرب بأن قدرته على إنقاذ نفوذه في العالم الاسلامي لا تزال عالية.
لكن الأمور قد أخذت تتطور في العالم الاسلامي بشكل لم يعد بإمكان الغرب إنقاذ نفوذه فيه إلا باستخدام قوته العسكرية بشكل مباشر. فبدأ القرن الحادي والعشرون وعنوانه الاحتلال الغربي المباشر للعالم الاسلامي. دشنت أمريكا حقبة الاحتلال المباشر الجديدة بغزوها لأفغانستان وإخراج حركة طالبان من الحكم وقد ساعدتها معظم الدول الغربية، وبعدها الغزو الأمريكي الغربي للعراق واحتلاله بالكامل، واحتلال اليهود من جديد أراضي السلطة الفلسطينية باجتياح المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وملاحقة المسلحين، ولم تتوقف هذه الحملات فدفعت أمريكا بإثيوبيا لاحتلال الصومال والقضاء على المحاكم الاسلامية فيه، وعلى أثر الحرب الاسرائيلية الفاشلة على لبنان صيف 2006م احتلت الجيوش الأوروبية جنوب لبنان تحت مسمى اليونيفيل، وأرسلت الجيوش الى دارفور تحت مسميات قوات الاتحاد الافريقي أو القوات المشتركة، وأصبح الأوروبيون يديرون لليهود معبر رفح بشكل مباشر.
 وأما القواعد العسكرية فبعد أن نجحت أمريكا في بناء قواعدها العسكرية في كافة دويلات الخليج فقد تمكنت من اختراق المناطق الاسلامية في آسيا الوسطى فبنت قواعدها في أوزبكستان وتركمنستان وقيرغيزية ودشنت حقبة جديدة من التعاون العسكري مع حكومة كازاخستان وأرسلت المظليين الأمريكيين اليها لتدريبهم على القتال ولطمأنة الأنظمة في آسيا الوسطى بأن أمريكا ستحميهم من الحركات الاسلامية المطالبة بإعادة الخلافة الاسلامية لا سيما في أوزبكستان. وليس هذا فحسب، وبعيداً عن القواعد العسكرية الروسية في آسيا الوسطى فإن دولاً كالهند وألمانيا لا تملك أي قواعد عسكرية خارج حدودها قد بنت قاعدة لكل منها في آسيا الوسطى.

وهكذا فإن القرن الحادي والعشرين قد بدأ بتتابع الحملات العسكرية الغربية على العالم الاسلامي مشركةً معها قوى أخرى أو موكلةً لها بعض الأعمال كإسرائيل والهند وإثيوبيا. وكانت أمريكا والغرب عموماً قبل ذلك تعتمد على التخويف باستخدام القوة دون أن تستخدمها مباشرةً باستثناء حرب أمريكا على العراق لتحرير الكويت سنة 1991م وحملتها القصيرة في الصومال بداية التسعينات. والذي يجب التوقف عنده هو النتيجة التي آلت اليها الأمور في العالم الاسلامي بالنسبة للغرب، هذه النتيجة التي انتقلت من كونها خطيرة في ميزان الغرب الى أن أصبحت له كابوساً مليئاً بالرعب والخوف من العالم الاسلامي. فلا يخلو تصريح أوروبي من التحذير من الأخطار القادمة من العالم الاسلامي تحت مسميات الارهاب وغير الارهاب، وتقر الغالبية العظمى من الساسة في أوروبا بحساسية الاسلام والعالم الاسلامي على القارة الأوروبية نفسها، وأنهم يراقبون باهتمام بالغ تطورات الأمور في العالم الاسلامي الذي يطلقون عليه اسم الشرق الأوسط. فقد طرح الرئيس الفرنسي سارخوزي صيغة بناء منظمة متوسطية جديدة على غرار الاتحاد الأوروبي تضم بلدان المتوسط أي أوروبا والمسلمين، والهدف منها تمكين أوروبا من التأثير في مجريات الأمور في البلدان العربية وتركيا وامتصاص الغضب الاسلامي ومحاولة احتواء القوة الاسلامية القادمة حتى قبل تبلورها. وأما أمريكا فقد قال وزير دفاعها غيتس أمام مؤتمر السياسة الأمنية الدولي المنعقد في ميونيخ في 10 شباط 2008م بأن أفغانستان تهدد بتفسيخ حلف الناتو وحذر بأن المتشددين الاسلاميين يشكلون خطراً حقيقياً يهدد الأمن الجماعي لأوروبا وأمريكا.

والذي راقب فشل السياسات السوفييتية وبعدها الروسية لتفسيخ حلف الناتو ينتابه عدم الفهم من أقوال وزير الدفاع الأمريكي بأن المتشددين الاسلاميين حسب وصف الوزير الأمريكي أو حركة كطالبان يمكنها فعل ما عجزت عنه موسكو. ولكن المراقب لآثار هذه التدخلات الأمريكية يرى بأم عينية بأن تحولات كبرى قد حصلت في العالم نتيجة الفشل الأمريكي والغربي والإعياء في العالم الاسلامي وأن أمر الصراع بين المسلمين والمستعمر الغربي على حافة فقدان السيطرة الغربية عليها.

الإعياء الأمريكي في العالم الاسلامي

أعلنت الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر 2001م حربها على الارهاب، وبدأت عملياً بتنفيذ هذه السياسة بعد أقل من شهر من تبنيها فقامت في بداية تشرين أول بشن الحرب على أفغانستان. كانت معنويات الجيش الأمريكي والشعب الأمريكي عالية كالجبال لأنها إنما شنت تلك الحرب لتنتقم ممن هاجمها في 11 سبتمبر، فاحتلت أفغانستان بسهولة بعد أن جندت الكثير من القوى العالمية والاقليمية والمحلية في أفغانستان معها، وكان شعار أمريكا لأمم العالم "إما معنا أو ضدنا"، واستمرت أمريكا تطارد زعيم تنظيم القاعدة في جبال أفغانستان بشراسة ودأب لا يعرف الكلل، وكان المراقب للمعرك الأمريكية في تورا بورة وغيرها وكأنه ينظر فيلماً من إنتاج هوليوود، لكن أمريكا عجزت تماماً عن تحقيق هدفها المعلن في أفغانستان وهو قتل بن لادن أو اعتقاله. ودون أن تسدل الستار على الحرب الأفغانية تبنت مبدأ الحرب الوقائية وأشعلت أولاها في العراق في آذار 2003م وكان الدافع المعلن لهذه الحرب الجديدة هو القضاء على أسلحة التدمير الشامل في العراق، وتماماً مثل أفغانستان نجحت أمريكا نجاحاً باهراً في النصر في العراق والقضاء على الجيش العراقي والحرس الجمهوري والنظام العراقي وأعلنت في أيار 2003م إنتهاء عملياتها العسكرية الرئيسية في العراق. وبطي صفحة العراق ونظام صدام حسين بعد صفحة أفغانستان وطالبان أصبح العالم الاسلامي واقعاً تحت الرعب الأمريكي بشكلٍ مباشر، وربما أخذت دوائر صنع القرار لدى المحافظين الجدد ترسم الخريطة في الصفحة التالية في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

بكل الموازين والمقاييس الدولية فقد وصلت أمريكا أقصى ذروتها باحتلالها للعراق بعد أفغانستان، ولم يكن ليخطر ببال مفكر ناهيك عن سياسي أن قوةً ما في عالم اليوم بقادرة على وقف الوحش الأمريكي عن التمدد أو بقادرة على حماية الفريسة التالية. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن المقاومة في العراق قد غيرت مجرى الأحداث على الصعيد الإقليمي والدولي، وهذه حقيقة كبرى ربما لا تدرك حتى المقاومة العراقية أبعادها بشكل شامل، فما كاد يمر عام واحد على احتلال العراق حتى انخرطت شرائح واسعة من العراقيين والمسلمين الآخرين في حرب أمريكا في العراق، فسيطر الذهول ثم الإرباك على ساسة الولايات المتحدة، وعجز الجيش الأمريكي عن بسط نفوذه على الأرض في العراق، وكان شارع حيفا في بغداد قد شكل وصمة عارٍ أبدية للجيش الأمريكي ناهيك عن الفلوجة وغيرها، فهذا الشارع يقع على بعد خمسمائة متر من المنطقة الخضراء التي يتحصن فيها الأمريكان في بغداد ولا يمكن للجيش الأمريكي المرور به، وكانت القاذفات الأمريكية الثقيلة تقصف هذا الشارع حتى سنة 2007م أي أن أربع سنوات من الاحتلال لم تستطع الجيوش الأمريكية تحرير منطقة تبعد عن حصنها الحصين مئات الأمتار فقط. وهذا ناهيك عن آلاف الجنود الأمريكيين القتلى في العراق وعشرات الآلاف من الجنود الجرحى. وباختصار فإن المقاومة في العراق قد أعيت الجيش الأمريكي وأنهكت قواه وأضعفت من جاهزيته القتالية بشكل كبير.
وقد استمر الإنهاك كمرض مزمن للجيش الأمريكي، وصدرت العديد من تقارير القادة العسكريين الأمريكيين تتحدث عن حالة جديدة للجيش الأمريكي، وهي حالة الإعياء والإنهاك بسبب العراق وكذلك بسبب عودة حركة طالبان الى القتال بشراسة في أفغانستان من جديد، وطالبت هذه التقارير باتخاذ المزيد من الإجراءات لا سيما زيادة الميزانية العسكرية لعلاج هذا المرض الذي ضرب الجيش الأمريكي محذرةً من تردي قدرات الولايات المتحدة العسكرية وضعفها على صد أخطار جديدة في العالم الاسلامي أو خارجه.   
       
هذا على الجانب العسكري، أما على الجانب السياسي فإن الإعياء من العالم الاسلامي قد أنهك الساسة في واشنطن، فبدل أن تنجح الحملات الأمريكية في القضاء على زعيم تنظيم القاعدة بن لادن برز الزرقاوي في العراق كقائدٍ أشد خطورة من بن لادن نفسه، بل إن أمريكا صارت تركز على الزرقاوي وتناست بن لادن، ولم يؤد مقتل الزرقاوي في العراق الى شعور الساسة في واشنطن بالنصر لأن ذلك لم يخفف من وطأة الورطة الأمريكية في العراق. ومن المسائل التي قضت مضاجع الساسة الأمريكيين أن مسألة أسلحة التدمير الشامل في العراق قد ظهرت على أنها حجة كاذبة للحرب في ضوء فشل أمريكا في العثور على أي دليل يثبت ذلك، وأمريكا التي كانت تشترك في تفتيش كل شيء في العراق كانت تعلم هذه الحقيقة، ولكن القول بعكسها كان لازماً لهؤلاء الساسة لتبرير غزوهم للعراق. فكان أثر انكشاف عوارها مربكاً لهؤلاء الساسة الذين فقدوا الذريعة التي خاضوا الحرب من أجلها.

وهكذا فقبل أن يتمكن الساسة في واشنطن من التمتع بإنجازات عصر بوش الذهبية الأولى حصدوا نعوش جنودهم في العراق وأفغانستان، وأصبحت الولايات المتحدة أشد كراهيةً ورفضاً في كافة أرجاء المعمورة، وتطاول عليها الكبار والصغار، وأخذت تلملم هزائمها. وذلك أن تركيز أمريكا على محاولة الخروج بدون هزيمة في العراق وصيرورة العراق الشغل الشاغل لكافة الساسة والعسكريين في واشنطن قد أفقد واشنطن هيبتها العسكرية والسياسية دولياً، فتجرأت بعض الدول الأوروبية على أمريكا في مناطق نفوذها في السودان وموريتانيا ولبنان وأوجدت لها المتاعب بل وقضمت منا مناطق نفوذ، وتجرأت عليها روسيا في آسيا الوسطى فقامت عن طريق أتباعها بتصفية القواعد العسكرية الأمريكية في تلك المنطقة برمتها ولم يبق لواشنطن سوى قاعدة بشكيك في كيرغيزستان وهي الأخرى قد وضعت على طريق التصفية. وفي كازاخستان قامت الحكومة بداية 2008م بإيحاء من روسيا بمراجعة عقود شركات الطاقة الأمريكية كلها تمهيداً للتنصل من تلك الاتفاقيات، ونجحت روسيا في خلخلة ما أدخلته أمريكا من نفوذ في جورجيا وأكرانيا. وأما الصين فقد نجحت عبر عقود الطاقة مع روسيا في الافلات من الضغط الأمريكي عليها بل إن الصين قد صارت تطمح للنفوذ وللمرة الأولى في تاريخها بعيداً عن حدودها في أفريقيا. وكان طلب رئيس أوزبكستان لأمريكا بإخراج قاعدتها العسكرية من بلاده استفزازياً إذ طلب منها أن تقوم بذلك من طرف واحد وفي غضون ستة شهور بعد أن كانت أمريكا تعتبر هذا الرئيس عميلاً لها قبل أن ينقلب عليها ويعود لأحضان موسكو. وفي أمريكا الجنوبية يقود الرئيس الفنزويلي تشافيز حملة لا يمكن الاستهانة بها لتحرير دول أمريكا الجنوبية من النفوذ الأمريكي. وبلغ من استهتار الدول بالولايات المتحدة أن أمريكا تجوب القارة الأفريقيا بطولها وعرضها منذ سنة 2006م ولا تجد بلداً مناسباً يقبل بأن يكون مركزاً للقيادة الأفريقية للجيوش الأمريكية.

فشلت الولايات المتحدة في فرض التفرد بالموقف الدولي، فها هي الدول الكبرى الأخرى تنشط بفعالية على الحلبة الدولية دون عظيم اكتراث بواشنطن ومواقفها، وخسرت أمريكا ولا تزال أكثر من مكاسبها الجديدة التي حققتها في السنوات الثلاثة الأولى لإدارة بوش الابن، ومن المقطوع به أن الولايات المتحدة تدرك بأن كل هذا الفشل العالمي بسبب القوة الاسلامية الجديدة، إذ لو نجحت في العراق وأفغانستان لكانت صورة النفوذ الأمريكي في العالم ذهبيةً، ولكن ذلك الفشل هو الذي يجر عليها كل هذه الويلات، وتصريحات وزير الدفاع غيتس في شباط 2008 "بأن الولايات المتحدة لا تخطط لإقامة قواعد عسكرية دائمة في العراق وأنها لن تربط نفسها باتفاقية لحماية النظام العراقي" الذي أقامته في بغداد تشير الى مراجعة أمريكية شاملة لأسباب نكساتها المتتالية ومحاولتها الخروج منها.

وما يجدر ملاحظته في الحملة الانتخابية للرئاسة الأمريكية رفع شعار التغيير والمصالحة مع العالم، فها هي ولاية بوش الابن الثانية تنتهي والولايات المتحدة تعاني من مشاكل اقتصادية حقيقة ناتجة عن نزيف خزينتها بسبب العراق وأفغانستان، وأمريكا التي حاولت ولا تزال تحميل العالم عبئاً من خسارتها الاقتصادية عن طريق سياستها النقدية وتسعيرها للدولار فتجعل دول العالم تدفع جزءً من فاتورتها في العراق وأفغانستان قد أصبحت تقوم بذلك في ظروف بالغة الخطورة وللمرة الأولى في تاريخها الحديث، فالكثير من دول العالم قد تخلصت من الدولار من بنوكها المركزية، والكثير من الدول الأخرى تتأهب لفعل ذلك، بل إن منظمة أوبيك قد طرحت احتمال تحولها الى اليورو للمرة الأولى، ويعترف الأمريكيون بأن الدولار قد فقد هيمنته التي كان يتمتع بها في العالم. والولايات المتحدة وإن كانت لا تزال تملك الكثير من الأوراق للضغط على دول العالم، ولكن المؤكد أن هذه الأوراق في تناقص، وأن نفوذها الاقتصادي والمالي في العالم يتناقص شيئاً فشيئاً وربما كانت حادثة أن بريطانيا قد قفزت وللمرة الأولى عن الولايات المتحدة في مساهمتها في البنك الدولي حدثاً جديراً بالانتباه اليه، فإن هذه المؤسسة المالية الدولية قد كانت أداةً للنفوذ الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية وها هي تفقدها. وها هو العجز في الميزانية الأمريكية يبلغ أقصاه ويتحدث الاقتصاديون كافةً عن انخفاض مستوى الرفاه في الولايات المتحدة وأن شرائح في المجتمع الأمريكي تدفع بشكل ثابت باتجاه العوز والفقر، فاصبح علاج الاقتصاد الأمريكي قضية حساسة للساسة الأمريكيين مع غياب أي بوادر استراتيجية جدية لإمكانية العودة الى الوضع الاقتصادي السابق فتجد الولايات المتحدة نفسها تقود سياسة الترشيد الاقتصادي داخلياً لا سياسة توفير موارد إضافية للاقتصاد.
ودولياً أصبح الشعب الأمريكي يحس بثقل أن يكون مكروهاً في العالم وغير مرحبٍ به للتدخل في شؤون الدول، فما أن يحضر الرئيس الأمريكي مؤتمراً أو يعقد اجتماعاً حول العالم إلا وتخرج المسيرات والمظاهرات المنددة به وبالولايات المتحدة مما يوجد أجواءً لا تساعد السياسة والاستثمار الأمريكي حول العالم. والذي يدقق فيما يطرحه مرشحو الانتخابات الأمريكية يرى بأن الولايات المتحدة قد أخذت ترى مدى خسارتها بسبب سياستها في العالم الاسلامي.

فالعسكري الأمريكي الذي يحاول كسب المعركة في العراق وأفغانستان مرة تلو المرة، ويكتشف أنه يواجه عدواً عنيداً يقاتل بأبسط ما توفر من أسلحة، يشعر هذا العسكري بالإعياء والتعب وهو يرى بأن هذا العدو لو توفر له تسليح أفضل لهزم أمريكا وأخرجها من العراق وأفغانستان وغيرها، ويرى العسكري الواعي بأن أي اختراق في المنطقة سيمكن هذه القوة الجديدة (القوة الاسلامية) من حسم المعركة، ومن أجل سد كافة الثغور التي تحاول القوة الاسلامية النفوذ منها تجد المهمات العسكرية الملقاة على أكتاف الأمريكيين في تزايد مستمر. فالفشل في العراق أدى الى تسخين أفغانستان من جديد وبدرجة أعلى فصار واجباً على أمريكا إرسال المزيد من الجيوش اليها، وبعد أن كان عشرة آلاف عسكري أمريكي كافياً لضبط الأوضاع في أفغانستان حتى سنة 2004م ناهيك عن قوات حلف الأطلسي الأخرى دفعت أمريكا بالمزيد من الجنود وبقيت تدفع حتى وصل عديد جنودها الى ثلاثين ألف جندي مع نهاية 2007م، ولم يعد ذلك كافياً فقامت بإرسال ما يزيد عن ثلاثة آلاف جندي آخر بداية 2008م. وتشاهد أمريكا بأن الوضع يزداد سوءً وأن المناخ يتحول ضدها بشكل متزايد الخطورة، فبعد أن حاربت حركة طالبان بسبب القاعدة ها هي منطقة جديدة هي وزيرستان في باكستان تتحول الى خطر جديد على الوجود الأمريكي في أفغانستان. وعلى الرغم من استجابة الرئيس الباكستاني كافة المطالب الأمريكية بحرب القاعدة وطالبان -باكستان إلا أن 90 ألف جندي باكستاني غير قادرين على حسم الحرب في وزيرستان الباكستانية وأخذت أمريكا تطرح فكرة إرسال قوات أمريكية للقتال داخل باكستان، بل وأصبحت اشد تخوفاً من سيطرة ما تسميهم متشددين إسلاميين على الأسلحة النووية الباكستانية.

وأمريكا تعلم جيداً بأنها باتت تحارب في حرب لا يمكن الانسحاب منها ولا يمكن الانتصار فيها. وهذه الفكرة تقود الى اليأس عندما يرى القادة في واشنطن بأن الأخطار الاسلامية تتولد ضدها يوماً بعد يوم، وأنها بحاجة الى المزيد من الجيوش والمزيد من الموارد لدرء هذه الأخطار، وبما أن الساسة في واشنطن يدركون حتماً محدودية قدراتهم العسكرية وحدود مواردهم الآخذة في التناقص فإنهم بلا شك يرون ذلك اليوم الذي ستخرج فيه القوة الاسلامية عن السيطرة، فهذه القوة تتنامى يوماً بعد يوم وبشكل مستمر وكل المؤشرات تشير الى التصعيد، وإذا ما سيطر الاسلام على دولة وتحكم في مقدراتها العسكرية ومواردها التي لا تزال تحت السيطرة الغربية بفعل الحكام فإن ميزان القوة سينقلب رأساً على عقب، وستجد الولايات المتحدة والغرب عموماً أنفسهم أمام مخاطر لا سبيل لتجاوزها إلا بالهزيمة والانسحاب وجر أذيال الفشل.

وقبل أن يحدث ذلك فإن أمريكا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً تعيش واقعاً جديداً هو الإعياء والإنهاك والاستنزاف، وفوق كون هذه الحالة الجديدة للولايات المتحدة هي حالة ضعف أكيد فإنها فوق ذلك تفعل فعلها في زيادة إضعاف الموقف الأمريكي. فالإنهاك سيقود حتماً الى إضعاف القدرات التي تراقب بها الولايات المتحدة القوة الاسلامية، وهذه الحالة من الضعف تفتك بأمريكا من داخلها ولكن بشكل بطيء بحيث تحملها على اليأس فتجعل قبولها للفشل طبيعياً، وإذا ما زاد تعقيد الأمور أمام أي قوة في العالم فإنها تصبح قابلةً للهزيمة بل وأن تتقبل هي نفسها الهزيمة وبالتالي الانسحاب الطوعي وطلب الاختباء، لأن مثل هذه الهزيمة تكون ناتجةً عن عملية متواصلة من محاولة إيجاد الحلول ومواصلة الفشل في ذلك.

ولعل هذا من سنن الله سبحانه وتعالى في خلقه، فإن هزيمة القوى في عنفوان قوتها تكون أشد صعوبة من هزيمتها في ظرف تكون فيه مستعدة لتقبل تلك الهزيمة، وهذه القابلية لتقبل الهزيمة قد بنت بنيانها في النفوس بسبب حصول الفشل الأصغر من الهزيمة مراراً وتكراراً عبر سنوات. وما نراه من واقع الإعياء والإنهاك للسياسة الأمريكية في العالم الاسلامي قد صنع فعلاً بأيدي المسلمين، ولم يكن ناتجاً عن بروز قوة دولية كبرى قد أخذت نفوذ أمريكا منها في العالم الاسلامي، فإن واقع الحال يقول: إذا كان أمريكا وهي القوة الأعظم عاجزة عن تحقيق أهدافها في العالم الاسلامي فإن غيرها أعجز عن تحقيق أهداف مماثلة في المنطقة.

وقد تكون بعض الأحداث في العالم الاسلامي كالأحداث اللبنانية خلال سنة 2007م تنم عن صراع دولي، فهذا صحيح والصراع الدولي لا يزال موجوداً في العالم الاسلامي بين الدول الاستعمارية، ولكن نطاق هذا الصراع يضيق ويتجه للانحسار في قوى السلطة أو القوى غير الاسلامية على الرغم من أن بعض القوى الاسلامية منخرطة في خدمة الدول الكبرى، ولكن الجديد هو بروز القوة الاسلامية الذاتية التي لا تأتمر بالغرب ولا تسير في مشاريعه السياسية أوروبية كانت أم أمريكية، وهذه القوة هي قوة أيديولوجية وسياسية وأحياناً تأخذ طابعاً عسكرياً كأعمال المقاومة في العراق وأفغانستان خاصة. وهذه القوة في تنامٍ مضطرد، فالقوة الأيديولوجية أي فكر الاسلام هي القوة الفكرية الوحيدة في العالم الاسلامي وأن الصراع الأيديولوجي قد حسم، وربما أقفلت ساحة الصراع الأيديولوجي يانتصار الاسلام وانتقال الصراع الى ساحة الكفاح السياسي أو القتال في المناطق المحتلة. وما يطرحه الغرب من مسائل أيديولوجية مثل حقوق المرأة والحرية لا تجد أي صدى حقيقي بين المسلمين، ولعل المشاهد لحجم المظاهرات العلمانية في تركيا يرى شدة انحسار هذه الأيديولوجية وأنها تتوسل للجيش للتدخل لمنع الحجاب في الجامعات التركية، ولولا تلك القوة أي الحكم لا سيما الجيش في تركيا المناصر للعلمانية بشدة قل نظيرها في العالم الاسلامي لما رأيت مئة علماني يتظاهرون ضد الحجاب.
 وأما الكفاح السياسي للقوة الاسلامية فإنه على أشده ضد الحكام التابعين للغرب، وأن هذا الاتجاه يتقوى يوماً بعد يوم إذ لم يكن يخطر ببال أن حزب التحرير يمكنه تسيير مسيرات تضم عشرات الآلاف في فلسطين وإندونيسيا وغيرها كثير، وهذا الكفاح المستمر سيجد قطعاً نافذة ينفذ من خلالها للنصر، ومع احتدام هذا الكفاح وتأجج هذا الصراع فإن تلك النافذة تقترب من أن تفتح لتضع حداً وتحسم الموقف وتقود القوة الاسلامية الشاملة نحو تحقيق النصر تلو النصر.    

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق