الأحد، 20 مارس 2011

غلاء الأسعار وأزمة الأنظمة التابعة للسياسة الأمريكية

22/11/2007
تجتاح العالم بأسره اليوم موجة غلاء كاسحة في الأسعار، فترتفع معظم أسعار المواد الاستهلاكية بنسب لا تطاق، ويضطرب المواطن العادي صاحب الدخل المحدود ويضطر الى إعادة النظر في مستهلكاته بالتخلي عن بعضها، ويرتفع الغليان الشعبي وسط الشرائح الفقيرة في المجتمع فتعقد الندوات من الأكاديميين لمحاولة فهم أسباب هذه الموجة من ارتفاع الأسعار على أمل أن يجد هؤلاء الأكاديميون بعض الدواء لتخفيف هذا الجرح النازف في المجتمع، وتنطلق المسيرات الاحتجاجية ضد الغلاء كما في مدينة الناصرة في فلسطين  وفي المدن الإيطالية والمظاهرات الصاخبة التي عمت موريتانيا وأزهقت خلالها أرواح من المسلمين، وكما في الإضرابات التي تنظمها النقابات المهنية لمحاولة رفع الأجور بما يتناسب مع جدول غلاء المعيشة كما في إضراب المعلمين في مناطق السلطة الفلسطينية.
وفي بعض المناطق تجد بعض الدول بعض الحلول الترقيعية التسكينية كمثل قرار الحكومة الموريتانية خفض موازنات بعض الوزارات وتخفيض الضريبة على الأجور، أو أن تلجأ دول أخرى الى دعم السلع الأساسية لتمكين المواطنين من الحصول على أساسيات الحياة كالخبز والوقود وغيرها. ولكن حكومات كثيرة لا سيما في العالم الاسلامي تبدو وكأن الأمر لا علاقة له برعاية شؤون رعاياها وكأنها غير مسؤولة عنهم بسبب انهماكها في المشاريع الأمريكية والتي يعتبر النجاح فيها بالنسبة لهذه الحكومات المؤشر الوحيد في نجاح الحكم  وضمان الحصول على رضا واشنطن، فتعزو هذه الحكومات أسباب الغلاء الى ظروف عالمية لا محلية وبالتالي فهي قدر لا قبل لها بدفعه، فلا تقدم حتى الحلول الترقيعية التي قد تخفف آلام مواطنيها لفترة غير طويلة من الزمن أي حتى الموجة القادمة من الغلاء.

وبالتدقيق في أسباب ارتفاع الأسعار يجد المرء نفسه تائهاً في تفكيك شيفرات ومعادلات الاقتصاد الرأسمالي المعقدة والمتشابكة والتي يغزو تأثيرها كافة المجتمعات في العالم. فبعد تفكك النظام الاقتصادي الاشتراكي بحل حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفييتي أصبح العالم كله تقريباً قرية واحدة يحاصرها كبار الرأسماليين ذوي الجشع الذي لا يعرف الحدود يتحكمون في قوتها ووقودها ورفاهيتها كميةً ونوعيةً وتسعيراً. ومع تطور تقنية المعلومات وشبكات الاتصال والمواصلات ازداد هذا التحكم بحيث أصبح من الصعب أن تفلت سلعة من السلع التي يحتاج المجتمع اليها من قبضة هؤلاء اللصوص الدوليين.
وإذا كانت طبيعة النظام الرأسمالي تؤدي الى سيطرة فئة قليلة على مقدرات المجتمع الاقتصادية وبالتالي السياسية فتجد شعوب الرأسمالية نفسها خدماً في معامل كبار الأغنياء، فإن الاستعمار والذي هو الآخر جزء من الرأسمالية يؤدي الى أن تقدم هذه الشعوب أبنائها ودمائها قرباناً لهؤلاء الأغنياء في حروب لا نهاية لها من أجل السيطرة على الموارد العالمية ومد النفوذ عبر العالم. وإذا كانت السياسات الاستعمارية قد استفحلت في العالم، وإذا كانت الكثير من شعوب الأرض تشعر بالعجز عن مقاومة تلك السياسات لا سيما بعد فشل الفكرة الشيوعية التي نادت بالقضاء على الرأسمالية وانهيارها في مهدها أي في روسيا فإن الأمة الاسلامية هي وحدها دون غيرها القادرة على فعل ذلك بما تملكه من عناصر قوة حقيقية لا يملكها غيرها. وبهذا فإن العالم كله يكابد المعاناة وهو يعرق ويكد من أجل المزيد من انتفاخ جيوب هؤلاء اللصوص الدوليين ينتظر فعل الأمة الاسلامية لتخلصه وتخلص نفسها من هذا التحكم المقيت الذي يفرضه الرأسماليون على العالم.

أما قصة هذا الغلاء في الأسعار وهذا التحكم فإن لها جذور ممتدة من التاريخ الحديث ومن طبيعة المبدأ الرأسمالي ولكن لها ظروفاً كبرى من وقتنا الحالي تعين على وضع الإصبع عليها ويمكن للمرء أن يشاهد بأن الرأسمالية تتآكل فعلاً من داخلها وأن سياساتها تكاد تخنقها من حيث لم تخطط، وهذا يشعل الأمل بأن الخلاص منها ومن آلامها قابل لأن يصبح حقيقة تعيشها الشعوب.

استفحلت سيطرة الشركات الأمريكية على العالم بعد انهيار الكتلة الشرقية، وذلك أن تركيز الولايات المتحدة في فترة التسعينات كان منصباً على السيطرة الاقتصادية عبر العالم، وكان ذلك متمثلاً في أجلى صوره في فترتي حكم كلينتون. فلأن الولايات المتحدة تمتلك أقوى اقتصاد بين كافة الدول الرأسمالية، ولأن الاقتصاد العالمي مربوط بأمريكا عن طريق الدولار  فقد دعت الولايات المتحدة تلك الدول للمبارزة في الجانب الاقتصادي وأخذت تقوي المنظمات الدولية التجارية والنقدية لأنها واثقة من فعالية قوتها الاقتصادية وواثقة من ضعف الدول الأخرى في منافستها، فطالبت أمريكا اليابان والهند وغيرهما برفع الحواجز الجمركية من أمام الصادرات الأمريكية، ومن زاوية أخرى كانت تلك السياسات الأمريكية تخفي في إحدى ثناياها تركيز الانتصار الأمريكي على الشيوعية بالتقليل من أهمية دور القوة النووية السوفييتية التي ورثتها روسيا كمنافس لنظيرتها الأمريكية على اعتبار أن ذلك قد طوته نهاية الحرب الباردة والتركيز بدل ذلك على ضعف الاقتصاد الروسي وحاجته الى المؤسسات الدولية المالية والتجارية لوقف انهياره. وفي تلك الفترة أخذت اليابان وألمانيا تطالبان وبدعم أمريكي بمقعد دائم في مجلس الأمن باعتبارهما القوتين الاقتصاديتين التاليتين لأمريكا. وكانت أمريكا ترفع شعار العولمة وتركز سياساتها الدولية لدفع العالم نحو الاختصاص أي أن يركز اقتصاد مصر وأوزبكستان مثلاً على إنتاج القطن ولا يكترث بالتصنيع ولا بغيره، وتركز روسيا على إنتاج الغاز واستراليا على اللحوم والبرازيل على إنتاج القهوة، وطبعاً تركز أمريكا وأوروبا على الصناعة والتكنولوجيا. وكانت أمريكا تدرك أن اعتراف العالم بقدراتها التكنولوجية وثنيه عن منافستها في هذا المجال عن طريق دفعه الى التخصص في إنتاج الخامات الصناعية والزراعية سيجعل العالم تحت رحمة التكنولوجيا الأمريكية في كافة قطاعات الانتاج، بما في ذلك تسعير التكنولوجيا وجني الأرباح عن طريق حصر المنافسة العالمية وعن طريق فتح كافة الأسواق لا سيما الصينية والروسية أمام المنتجات الأمريكية.    
كان أبرز ما نتج عن سياسات العولمة تلك موجة لا نظير لها في التاريخ الرأسمالي من عمليات اندماج الشركات الكبرى. وبهذه الاندماجات فإن تلك الشركات قد بلغت الذروة في رأس المال المتوفر لديها، وأصبحت من العظمة المالية بحيث أنها لا تنافس. فقد انحسر القطاع النفطي في العالم ببضع عشرات من شركات النفط الدولية العابرة للقارات وذابت أمامها الشركات المتوسطة ناهيك عن الصغيرة في عالم لا وجود فيه لصغار المنافسين، وانحسر قطاع إنتاج السيارات في بضع عشرات كذلك من الشركات المنتجة للسيارات واختفت شركات عريقة في هذا المجال كشركة روز رويز الانجليزية بابتلاع شركة فوكس فاجن الألمانية لها، وأما قطاع تقنية المعلومات فتكاد شركة مايكروسوفت تتربع عليه لوحدها. وعلى الرغم من احتفاظ الدول الأوروبية واليابان بموطأ قدم لا يستهان به في الاحتكارات العالمية في نتيجة هذه الاندماجات إلا أن الشركات الأمريكية كان لها حصة الأسد، وأظهر ما يكون هذا واضحاً في الشركات النفطية ففي الوقت الذي بقيت فيه لكل من فرنسا وبريطانيا وهولندا شركة واحدة بمستوى الشركات النفطية الأمريكية وتستطيع المنافسة بجدارة في أسواق إنتاج واستهلاك النفط والنتقيب إلا أن رساميل شركات إكسون موبايل وشيفرون وتكساسكو وغيرها من عمالقة النفط الأمريكيين كانت رساميل خيالية كمثل إكسون موبايل والتي تقدر قيمتها سنة 2007  ب 488 مليار دولار، هذا الرقم الذي يفوق موازنات عشرات من دول العالم غير الغني. 
وفي ظل هذا الواقع الجديد فإن المنافسة الدولية قد تناقصت بشكل رهيب لأن هذه القلة من الرأسماليين الجشعين قد أصبح ممكن اتفاقهم على رفع الأسعار بالقدر الذي يريدون، أي التحكم بالعالم عن طريق تسعير السلع التي ينتجونها بشكل احتكاري، ولعل في ارتفاع أسعار الحديد بنسبة 100% دفعة واحدة سنة 2005 ما يشير الى عمليات الاندماج في شركات المعادن، إذ لا يمكن تصور تساوي الظروف عند منتجي الحديد في الهند والصين وروسيا وأمريكا وأوروبا ودول العالم الثالث من حيث الكمية المتوفرة وكلفة الانتاج. وهذا الأمر لم يكن ممكناً عندما كان المئات أو الآلاف من مصانع الصلب في العالم تبحث لها عن سوق وتفاوض المستهلكين بشأن أسعارها.
وهذا الواقع الجديد أي عصر العولمة واندماج الشركات وتقليل المنافسة هو السبب الأول لغلاء أسعار النفط والمعادن والآليات وتقنية المعلومات والاتصالات وغيرها كثير من القطاعات التي جرى فيها الاندماج. وهنا يلمس تأثير سياسات العولمة الأمريكية وتأثير جشع الشركات الأمريكية العابرة للقارات والتي كان لها نصيب الأسد من تلك الاندماجات.

وبسياسات العولمة والانفتاح التي قادتها وروجت لها الولايات المتحدة بعد انتهاء الحقبة الاشتراكية فإن الرساميل الضخمة لكبار أغنياء العالم لا سيما الأمريكيين قد أصبحت تجوب العالم دون حواجز وتقوم بشراء الشركات المحلية الوطنية دونما رقيب ولا حسيب في معظم بقاع الأرض، وأصبحت تعيث في الأسعار فساداً. ولما قامت دول العالم الثالث بالامتثال لهذه السياسات الأمريكية وقامت بإنشاء قطاعات المال الوهمية كأسواق الأسهم فقد مكن حكام هذه الدول صناديق الاستثمار الأمريكية الضخمة من التلاعب بهذه الأسواق عن طريق إعادة تسعير أسهم شركاتها المحلية وجني الأرباح الهائلة فجأة ثم تقوم هذه الرساميل بالرحيل وترحيل أموال المواطنين في تلك البلدان الفقيرة الذين خدعوا بأسواق الأسهم بعد أن تكون هذه العملية قد خلفت زلزالاً مالياً في تلك الدول كما حدث في أسواق جنوب شرق آسيا في التسعينات وفي مصر ودول الخليج في العام الماضي. وفي نتيجة فقدان المال للمواطنين ورحيل رأس المال المحلي فإنه بلا شك تكون البلاد قد فقدت قدرتها على بناء اقتصاد إنتاجي محلي يمكنه من المنافسة على الصعيد المحلي في مواجهة الشركات الدولية الكبرى، ويؤدي ذلك الى المزيد من إغلاق أبواب المنافسة والمزيد من الأبواب المفتوحة أمام تحكم كبار الرأسماليين بهذه الدول وأسواقها بعد إفقارها.
وقد كانت نهاية التسعينات وهذه السنوات من هذا القرن شاهدةً على ظاهرة اقتصادية فريدة في التاريخ وهي إغلاق الصناعات المحلية وفقدان الشركات المحلية في البلدان العربية وغيرها القدرة على المنافسة أمام الشركات الدولية. وكان يحلو للبعض أن يسمي هذه الفترة بالغزو الاقتصادي الصيني للأسواق العالمية، وبغض النظر عن الظهور المفاجئ للرأسماليين الصينيين وبدون البحث في الاستثمارات الأمريكية الهائلة في الصين فإن الشركات المحلية كانت هي الضحية الأولى للعولمة، وقد استمرت الشركات الأوروبية والأمريكية واليابانية في الوقوف بقوة في أسواق العالم رغم التمدد الاقتصادي الصيني، فمثلاً لم تؤد صناعة الملابس الصينية الى إغلاق شركة فلانتينو الايطالية وغيرها من مصنعي الملابس لكن الكثير من معامل الخياطة المحلية قد أغلقت أبوابها وسرحت عمالها في العالم الاسلامي.

أما أحدث أسباب الغلاء فإنه هبوط سعر الدولار الأمريكي. ذلك الهبوط الذي يحدث هزات مؤلمة لمعظم دول العالم وشعوبها ويضعف من قدرة شعوبها على تحقيق الرفاهية بل ويفتك بالكثير من شعوب العالم لا سيما بالمسلمين في تحصيل الحاجات الأساسية اللازمة للحياة كالخبز وباقي المستهلكات الغذائية.

ولفهم هذا التأثير المؤلم لا بد من إلقاء نظرة لواقع الاقتصاد الأمريكي اليوم وارتباط العملة الأمريكية بالاقتصاد العالمي.      
كان الشعب الأمريكي فريداً بين شعوب الدول الرأسمالية في نهمه للاستهلاك، ولأن الولايات المتحدة كانت أقل الدول الرأسمالية تضرراً بالحرب العالمية الثانية واحتفظت بكل صناعتها ولم تدمرها الحرب كما حصل في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والتي حطمت الحرب قدراتها الإنتاجية فقد شهد الاقتصاد الأمريكي ازدهاراً عظيماً في العقود التي تلت الحرب، وكان نهم الاستهلاك المتزايد عند المواطن الأمريكي تغطيه الصادرات الأمريكية الى العالم. وفي بداية السبعينات أخذ العجز في ميزان التجارة الأمريكية مع دول العالم يشكل عرضاً مرضياً للاقتصاد الأمريكي،واستمرت البضائع الأجنبية تدخل أمريكا وأخذت الأموال تخرج منها. ولم تفلح كل محاولات أمريكا للضغط على الدول الأوروبية أولاً ثم اليابان في الثمانينات والآن على الصين في إقناعها باستيراد المزيد من السلع والخدمات الأمريكية، ولولا تطور قطاع تقنية المعلومات في أمريكا لكان تأثير العجز التجاري شديداً على الاقتصاد الأمريكي إذ ظلت دول العالم تستورد صناعة المعلومات وكذلك السلاح من الولايات المتحدة.

أما كيف كانت أمريكا تعالج عجزها التجاري، فقد كان أمام أمريكا طريقين الأول الاستدانة من الخارج أي من تلك البلدان التي ظهر معها عجز الميزان التجاري الأمريكي أو عن طريق خفض قيمة الفائدة وتشجيع الاقتراض من البنك المركزي الأمريكي وذلك بإصدار المزيد من الدولارات. ولما كان الاحتمال الثاني ينطوي على مخاطر انخفاض الدولار وبالتالي انخفاض صادرات دول كبرى للولايات المتحدة وما يمكن أن يتبع ذلك من إرباك الصناعة في تلك البلدان التي تعتمد التصدير للسوق الأمريكية فإن دولاً كاليابان والصين كانت تضطر لشراء سندات الخزينة الأمريكية أي تعيد تدفق الدولارات للسوق الأمريكية. وفوق ذلك فإن خفض قيمة الدولار سيؤدي الى انخفاض مماثل لأرصدة تلك الدول المقيمة بالدولار.
فشلت كافة السياسات الأمريكية في إقناع المستهلك الأمريكي بالحد من نفقاته الاستهلاكية أو بشراء المنتوجات الأمريكية بدل الأوروبية واليابانية والصينية واستمر نزف الأموال الأمريكية للخارج. والذي ضاعف هذا النزيف المالي توجهات الرأسماليين الجديدة نحو التجارة المالية فطغى الاستثمار الأمريكي في قطاعات البنوك وصناديق الاقراض وأسواق الأسهم على قطاعات الانتاج السلعي، فلم تعد الصناعة عماد الاقتصاد في أمريكا وهي تشكل اليوم 21% من الناتج المحلي الاجمالي، وتقوم بتشغيل 8% فقط من العمالة في أمريكا (2006). وظلت الولايات المتحدة تعاني بشكل مزمن من العجز في ميزانها التجاري.
رأى الرأسماليون القابعون خلف الحكم في أمريكا أن تدمير العراق وإعادة إعمار الشركات الأمريكية له سيؤدي الى إنعاش اقتصادي كبير للولايات المتحدة. وكان تقدير هؤلاء الأمريكيين بأن العراق بما يملكه من احتياطات ضخمة من النفط يقدر المؤكد منها ب 112 مليار برميل يمكنه أن يصبح ثالث دولة مصدرة للنفط في العالم بعد السعودية وروسيا، ويمكنه أن ينتج 6 ملايين برميل يومياً. وهذا العائد الضخم من الثروة النفطية سيمكن الشركات الأمريكية من الاستثمار المربح والبعيد عن المنافسة الدولية في إعادة بناء القوات المسلحة العراقية تدريباً وتسليحاً، وقطاع البناء والكهرباء والاتصالات وغيرها مما سيلزم العراق بعد تدميره.
وفعلاً قامت أمريكا بتدمير ما استطاعت الوصول اليه من مقدرات المسلمين في العراق باستثناء قطاع النفط، وباحتلال العراق وقفت الشركات الأمريكية جنباً الى جنب مع الجيش الأمريكي للاحتفال بالنصر.
لكن تأجج المقاومة العراقية بشكل لم يكن في الحسبان قد أفقد الشركات الأمريكية الأمل بهذه الغنيمة الكبيرة، فإذا لم يكن الجيش الأمريكي آمناً في العراق فكيف بجبناء المال أن يأمنوا الاستثمار فيه.
لم يقتصر تأثير المقاومة في العراق على حرمان أمريكا من الانتفاع المتوقع من الثروة النفطية والاستثمار في العراق، وتوقف إنتاج النفط في العراق عند سقف مليوني برميل في أفضل الحالات، وحملت شراسة المعارك الكثير من الشركات الأمريكية على المغادرة وترك العراق وأحلام أمريكا فيه، نعم لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن إدارة بوش أصبحت في حاجة الى مئات المليارات من النفقات المباشرة لتغطية تكاليف الحرب في العراق، ناهيك عن تقدير الخبراء لآلاف المليارات المتوقع خسارتها للاقتصاد الأمريكي بسبب العراق في السنوات القليلة القادمة. وهكذا قلب المجاهدون الآية ضد أمريكا فأصبح النفط العراقي لا يمكنه تسديد الفاتورة العسكرية لوحدها للولايات المتحدة في العراق وتحول الى نزيف جديد وشديد للاقتصاد الأمريكي ما زاد وفاقم من المشاكل  الاقتصادية لواشنطن. وأصبح الميزان التجاري يرتفع قفزات كبيرة ليصل الى ما يقارب 800 مليار دولار هذا العام.

وبسبب سياسة أمريكا في الحرب على الاسلام تحت ذريعة الارهاب فقد وجد الكثير من المستثمرين المسلمين لا سيما لصوص النفط الظروف غير مواتية لاستمرار استثماراتهم في أمريكا فقاموا بمغادرتها والتحول الى الاستثمار في أوروبا والصين وقدر بعض الخبراء هذه الاستثمارات (للمسلمين) الهاربة من الولايات المتحدة ب 180 مليار دولار.

وبهذا أصبحت الولايات المتحدة في حاجة ماسة ومتزايدة لإجراء يخفف من عبء مديونيتها وينعش التصدير من الولايات المتحدة، وكل هذا من أجل علاج المرض الذي قفز مهدداً بالفتك بالاقتصاد الأمريكي، تنازلت الولايات المتحدة عن سياستها بالحفاظ على الدولار القوي ورفعت معدل الفائدة، فبعد أن كانت هذه الفائدة 1% لمدة 42 عاماً ضوعفت وأصبحت 2%، وأخذ الدولار يتراجع بشكل كبير ووصل الى مستويات قياسية أمام العملات العالمية.
وهذا الإجراء أرادت من ورائه أمريكا أن تجد من يتحمل معها أعباء أزماتها الاقتصادية، ووجدت هؤلاء في كافة الدول التي يعتبر الدولار احتياطي لعملاتها، فخسرت هذه الدول من قيمة رصيدها بالدولار بنفس النسبة التي انخفض فيها الدولار. فالأردن مرتبط ديناره بالكامل بالدولار وكذلك دول الخليج، وأصبحت بعض هذه الدول تجاهر بخسائرها وأنها تفكر في الاقلاع عن ربط عملاتها بالدولار لوحده، وأما الدول التي تربط عملتها بسلة عملات عالمية فقد كانت خسائرها أخف. ويعتقد الكثير من الاقتصاديين الأمريكيين بأن الانسحاب من العراق سيوقف شدة النزف في الاقتصاد الأمريكي. ولما كان اليورو الأوروبي قد أضحى منافساً فعلياً للدولار فإن دفاعات الاقتصاديات العالمية عن الدولار قد أصبحت أقل قوة من ذي قبل.
وهكذا انخفض الدولار أمام عملات الدول الصناعية بنسب متفاوتة، فكان انخفاضه شديداً ومروعاً أمام اليورو، فأصبحت البضائع الأوروبية باهظة الثمن لكل الدول التي تحتفظ باحتياطي الدولار طبعاً بالاضافة الى أمريكا نفسها، فاجتاحت موجة الغلاء في البضائع الأوروبية وغير الأوروبية بدرجة أقل بلدان العالم الاسلامي التي تربطها أمريكا بالدولار رباطاً يكاد يكون محكماً.
وعندما أبرزت دول بعض الامتعاض على السياسة المالية الأمريكية لأن تلك الدول هي التي تدفع الثمن بعدم التزام أمريكا باستقرار الدولار، وذلك بسبب كون الدولار القاعدة النقدية لتلك البلدان، فإن الولايات المتحدة قد أشهرت سيفها في وجه تلك الدول فهددت برفض الصادرات الصينية من ألعاب الأطفال بسبب ما تحويه من مواد كيماوية ضارة. وإذا كانت الصين تصدر كميات خيالية من ألعاب الأطفال تبلغ قيمتها سبعة مليارات دولار في العام فإن ذلك يعني ضرب هذه الصناعة ودفع حوالي 10 ملايين عامل صيني الى البطالة فإن الصين فعلياً قد استجابت لتلك الضغوط الأمريكية وعدلت عن إعادة التفكير في كون الدولار الأمريكي هو قاعدتها النقدية. وأما السعودية والتي أيضاً أبرزت مخاوف من انخفاض الدولار وذكرت أنها قد تقوم بإعادة النظر في وضع الدولار كقاعدة نقدية وحيدة لريالها فقد عدلت عن ذلك تحت وطأة التهديد الأمريكي بقضايا حقوق الانسان في المملكة، وإذا كانت دولة مثل الصين تستطيع تعويض بعض خسائرها عن طريق صادراتها بغير الدولار فإن السعودية والخليج لا يمكنها ذلك لأن اقتصادها يرتكز على تصدير سلعة واحدة وهي النفط المسعر بالدولار الأمريكي، وهكذا كانت البلدان المنتجة للنفط هي الخاسر الأشد في العالم نتيجة هذا الاجراء الأمريكي.

وبهذا أصبح المسلمون يشاركون الولايات المتحدة في فاتورة قتلها للمسلمين في العراق وأفغانستان ويتحملون معها جزءً من المسؤولية المالية، وأصبح المسلمون كما غيرهم نتيجة النفقات العسكرية الأمريكية بالاضافة الى جشع الاستهلاك الأمريكي بحاجة الى العمل وقت أطول وجهد أكبر ونزف المزيد من العرق والطاقات من أجل تلبية حاجاتهم الأساسية والكماليات، كل ذلك بسبب السياسات الاستعمارية الأمريكية.
وهذا هو السبب الثاني في غلاء الأسعار

وبما أن الولايات المتحدة تعتبر أكبر منتج للقمح في العالم وأنها أمام حاجتها للمزيد من الأموال وقدرتها على المنافسة شبه الاحتكارية في القمح فإن ذلك يكون سبباً آخراً في زيادة أسعار الخبز. إذ يفترض أن القمح أمريكي المنشأ بالدرجة الأولى أن لا يتأثر إلا قليلاً بهبوط الدولار إلا أن سعره قد ارتفع بنسب هائلة مما يشير الى أثر جشع الولايات المتحدة في هذه التجارة. وهناك سبب ثانٍ في زيادة سعر الخبز وهو صناعات الطاقة البديلة إذ يقوم المنتجون حالياً بتحويل فعلي لما يقدر ب 20% من مزارع القمح لانتاج الميثانول بعد نجاحه كوقود للسيارات، وما يقال في هذا الجانب عن القمح يقال عن الذرة وقصب السكر لا سيما في البرازيل.

وأما السبب الذي لا يقل أهمية عن تلك المذكورة فهو ارتفاع أسعار النفط بشكل خيالي ما يؤدي الى رفع أسعار النقل بشكل كبير ورفع كافة أنواع السلع التي يعتمد إنتاجها على الطاقة. 
أما سبب ارتفاع أسعار النفط فإنه ليس بالتأكيد كمية النفط المعروض من الدول المنتجة، فهذه الدول لا سيما الاسلامية وبالأخص السعودية تقوم بتنفيذ الأوامر النفطية الغربية بشكل تام. وعلى الرغم من أن كميات النفط العالمية في تناقص إلا أن هذا الارتفاع الحاد في سعره لا يعود الى محدودية الاحتياطي المتوفر لأن تأثير ذلك على السعر يكون بطيئاً، ولا يعود لهبوط الدولار لأن النفط إنما يسعر بالدولار، والدول المنتجة لا تمتلك من أمرها الكثير لتطالب بزيادة سعره بشكل يتناسب مع انخفاض قيمة الدولار. والراجح أن ارتفاع سعر النفط ناجم عن مضاربات صناديق المال والشركات النفطية لا سيما الأمريكية فهي من ناحية لا تود تمكين الدول الأوروبية من الانتفاع بهبوط الدولار وشراء النفط الرخيص فترفع سعره بواسطة التوقعات التي اعتادت على اطلاقها للتلاعب بأسعار النفط كمثل الشتاء القارس الذي ينتظر الشمال ومعدلات النمو الاقتصادي وغير ذلك.
 ومن هذه المضاربات توجه الكثير من صناديق المال الهاربة من سوق العقارات الأمريكية الى الاستثمار في النفط. تلك النكسة التي حلت بهذه الصناديق في الشهر الماضي نتيجة انخفاض أسعار المساكن في أمريكا وما أنتجه هبوط الدولار من عدم قدرة أصحاب العقارات الأمريكية من تسديد قروضهم لمؤسسات الربا المقرضة، حيث سارت تلك الخسائر والهلع الناتج عنها تضرب بصناديق الاقراض العقاري الأمريكي وغير الأمريكي  سارت ككرة الثلج المتدحرجة تضرب البورصات في أمريكا وأوروبا وآسيا وبلغت تلك الخسائر 100 مليار دولار.
 كان النفط المسعر بالدولار الأكثر إغراءً لتلك الصناديق للاستثمار ولما كان توجهها للتجارة النفطية مفاجئاً وسريعاً نتيجة أزمة العقارات الأمريكية فقد زادت العقود الآجلة على النفط بشكل جعل ارتفاع سعره طبيعياً أمام الطلب المتزايد.      

وهكذا تتضح الصورة بأن العولمة وما نتج عنها من الشركات العملاقة التي لا منافس لها، وكذلك هبوط سعر الدولار وارتفاع سعر النفط هما الأسباب الرئيسية وراء موجات غلاء الأسعار التي أخذت تجتاح الأسواق العالمية بالاضافة الى أسباب أخرى أقل أهمية. أي أن العالم كله مطالب للكد والشقاء وبذل المزيد من الجهود من أجل ضخ الأموال لصالح الراسماليين الأمريكيين ومن أجل دفع ثمن مغامراتهم العسكرية في حروب النفوذ والسيطرة على الموارد العالمية.

وهكذا فإن شر أمريكا يطال العالم بأسره بعد أن دخلت أمريكا كافة زوايا العالم، وبعد أن أشاعت ثقافة الجشع والأرباح بشكل كبير عبر الدنيا بأسرها ما صار يهدد بأن يكون توجهاً عاماً لكبار التجار غير الأمريكيين. 

المصادر:
       1.         صباح نعوش   هبوط سعر الدولار (الجزيرة 2007)
       2.         المعرفة    أزمة القروض العقارية في أمريكا (الجزيرة 2007)
       3.         محمود عبد الغفار    سيناريوهات أزمة القروض العقارية الأمريكية المتوقعة على العالم (الجزيرة 2007)
       4.         أحمد مصطفى   الأزمة المالية والاقتصاد العالمي: الأسوأ لم يأت بعد (بي بي سي العربية 9/11/2007)
       5.         بي بي سي العربية    لماذا ينخفض الدولار (27/11/2004)
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق