الخميس، 13 أكتوبر 2011

الصراع الانجلو- فرنسي في ليبيا

تتشابك خيوط النفوذ الدولي وتتعقد في ليبيا وتنتقل بسرعة من حالة الاتفاق الى حالة الصراع وفق تطورات الوضع في ليبيا. وهذا طبيعي للدول التي تفكر بعقلية المنفعة الاستعمارية. فبريطانيا كانت صاحبة النفوذ الأوحد في ليبيا قبل الانتفاضة، لذلك كان من الطبيعي لها أن تكون الأقدر على التاثير في مجريات الأمور لاحقاً. فسارعت الى الاتصال ببعض صغار الموظفين عند القذافي أمثال وزير عدله مصطفى عبد الجليل ووزير داخليته عبد الفتاح يونس من أجل تشكيل البديل للنظام القائم فيما لو تطورت الأمور على الطريقتين التونسية والمصرية. والظاهر أن بريطانيا قد ارتأت أن تشرك معها فرنسا لسببين: الأول، حتى تبقى ممسكةً بالقذافي ونظامه فيما لو تمكن من الصمود أي أن لا تظهر هي في مقدمة الجهود الدولية ضد القذافي أي أنها أنابت عنها فرنسا في هذه الحالة فشجعتها عبر اللقاءآت المشتركة على تبوأ الصدارة لمناصرة الثوار، والثاني، لتكون فرنسا معيناً لها ضد أي تدخل أمريكي محتمل. وقد ردجت الدولتان أثناء فترة ضعفهما أمام القدرات الأمريكية الكبيرة على التعاون واقتسام المغانم، إذ إن أي منهما لوحده عاجز عن منافسة الولايات المتحدة بمفرده. وكان ذلك ظاهراً في الاندفاع الفرنسي منقطع النظير بداية الأزمة الليبية والمشاركة الفاعلة من الطائرات الفرنسية في القصف وصد قوات القذافي عن بنغازي. 




أثبتت دولة قطر أنها قادرة على النفاذ للثورة الليبية بما تملكه من ماكنة اعلامية هائلة وامكانيات مالية لدعم الثوار سراً وعلناً، كما وأثبتت للثوار أنها قادرة على التدخل في اللحظات الحرجة، فعندما استنفذ ثوار المنطقة الغربية ذخائرهم ووقفوا على أبواب هزيمة مرجحة أمام كتائب القذافي في الوقت الذي كانت تغلق فيه دول الناتو جبهة البريقة لشهور فتمنع تقدم ثوار المنطقة الشرقية غرباً، بادرت قطر لمد ثوار المنطقة الغربية بالذخيرة والسلاح الحديث ونسقت ايصال ذلك مع السلطات التونسية، فرجحت كفة الثوار وبدأت رحلة الانتصارات الكبيرة حتى تمكن الثوار من وصول طرابلس. وبهذا كله، فإن بريطانيا كانت الأقدر على التأثير في الساحة الليبية. وفي تلك الأثناء تسرب اليأس الى الأمريكيين في احتمال الظفر بليبيا فبدأ الانسحاب الأمريكي المبكر من الساحة الليبية، وإذا كانت بريطانيا قد أبدعت في استخدام دولة قطر الصغيرة فإن أمريكا قد فشلت فشلاً ذريعاً في استخدام دولة مصر الكبيرة ليس فقط من أجل جني النفوذ في ليبيا، بل ولتعزيز وتثبيت السلطة الجديدة في مصر، فأضاعت فرصة مزدوجة.
في هذه الأثناء كانت فرنسا تنشط بنفسها على الساحة العسكرية الليبية في اطار الناتو، فكانت أبرز دول الناتو وتألق نجمها في ليبيا، وكان ذلك ظاهراً في حجم المشاركة الفرنسية في الحملة وخاصةً في بدايتها، فكادت تبدو وكأنها حملةً فرنسيةً في اطار الناتو، لكنها لم تكن تدرك أن كل ذلك يمكن أن تذروه الرياح بعد الثورة ما دام لا يرتكز كثيراً على الأرض، وكانت فرنسا مطمئنة لارتباطها بكبار العلمانيين الليبيين أمثال محمود جبريل ومحمود شمام، ولم تنس بالطبع أن تختلس عقوداً نفطية ثمينة من وراء الطاولة كادت أن تكون وبالاً على نفوذها هناك. وكانت تكتفي باسناد الاتصالات الخارجية التي يجريها جبريل مع دول العالم، فتسهم بذلك في حشد الاعتراف الدولي للمجلس الانتقالي في ليبيا، وكانت متناغمة في ذلك بالكامل مع السياسة البريطانية.
خططت بريطانيا لاقفال المسرح الليبي، وفتحت طريق تونس للامدادات القطرية بالسلاح للثوار في المنطقة الغربية، وكان ذلك يجري وفق خطة مدروسة لم تكن تستثن بريطانيا فيها الابقاء على إمارة للقذافي في منطقة سرت، ويبدو من سرعة دخول الثوار لطرابلس أن اتصالات أجرتها بريطانيا أو عملائها داخل نظام القذافي وكتائبه العسكرية قد أثمرت في فتح أبواب طرابلس لثوار المنطقة الغربية. وبسبب مجاهيل المعادلة الليبية لا سيما تلك العناصر المتعلقة ب"الاسلاميين" فقد منعت تلك الخطة التي قادتها بريطانيا ثوار المنطقة الشرقية من الالتحام بثوار المنطقة الغربية، فكان النصر وفتح طرابلس خالصاً لثوار المنطقة الغربية ما أوجد شرخاً بين ثوار المنطقتين. ومن الجدير ذكره، أن الحفاظ على الجدار "البريطاني" عند البريقة ومنع الثوار من التقدم غرباً كان سبباً في تصفية أحد أركان النفوذ الانجليزي عبد الفتاح يونس. ولم تنته فكرة "الجدار" من العقلية الانجليزية في ليبيا، أي فكرة الدويلات الثلاثة:شرقية وغربية وسرت، لكن توسع النفوذ البريطاني ليشمل بعض "الاسلاميين" في ليبيا يساهم في الحد من خوف الغرب عموماً وأوروبا خصوصاً ومنها بريطانيا من الاسلام السياسي في شمال أفريقيا. وإذا ما اطمئنت بريطانيا لزوال خطر الاسلاميين وتمكنت من طي بعضٍ منهم تحت أجنحة عملائها في ليبيا وزالت بذلك مجاهيل المعادلة الليبية  فإن فكرة تقسيم ليبيا يمكن أن تزول من العقلية البريطانية مع أنها تزرع بذور التقسيم عبر عملائها على الساحة الليبية.
لم تفلح الولايات المتحدة في الامساك بأدوات نفوذ مهمة على الساحة الليبية، ولم تفلح في استخدام العسكرية المصرية، فقد تمالكتها عقلية الدفاع والحفاظ على ما تبقى من نفوذ وأحجمت عن المبادرة الفاعلة، فكان حظها للظفر في ليبيا محدوداً، وقد اعترفت بذلك عبر انسحابها المبكر من العمليات العسكرية في ليبيا. وهي تضغط من بعيد لأن يكون لها دور اقتصادي في النفط وفي إعادة بناء ليبيا دون أن تمتلك أدوات ذات وزن على الأرض في ليبيا. وقد كانت بريطانيا وفرنسا تتعاونان طوال اشتعال الأزمة الليبية لمنع أمريكا وأدواتها من أن يكون لها دور مهم في تلك الأزمة ومن ذلك تحريض الليبيين ضد المشاريع التي طرحتها تركيا بصفتها نائبةً عن أمريكا في تلك المشاريع. وهكذا خلت الساحة الليبية دولياً لبريطانيا وفرنسا. وهنا بدأ التعاون ينتقل ليصير تنافساً فصراعاً، لكن بأدوات ليبية خالصة.
اعترفت بريطانيا ولا تزال لفرنسا بدور مهم في ليبيا، لكن فرنسا التي عجزت عن رؤية الأدوات البريطانية المتزايدة في ليبيا أرادت توسيع دورها، وهنا اصطدمت بالكثير من العقبات التي لم تكن تراها، وتفاجئت فرنسا وعجزت عن المداورة ودفعت محمود جبريل لتقديم استقالته، وكان يمكن لبريطانيا أن تدفع أزلامها في اتجاه اخراج فرنسا من ليبيا، وكان ذلك ممكناً، بل وسهلاً في ظل الأجواء المتلبدة ضد محمود جبريل في ليبيا لا سيما وأن ذاك الاتجاه قد أخذ يتقوى بالدين. لكن بريطانيا أدهى وأبعد نظراً من أن تقبل بعض الغنائم وتهمل المستقبل، ففرنسا لا تزال مفيدةً للدور الانجليزي بل وضروريةً له في الكثير من المناطق الأخرى.
رفض المجلس الانتقالي بقيادة عبد الجليل التشكيلة الوزارية التي طرحها محمود جبريل وحرض "الاسلاميين" ضد جبريل وجماعته بصفتهم علمانيين ، ووقفت قطر ضد خطوات جبريل وطالبته بالتشاور مع الجميع لتشكيل الحكومة، وأخذت تتشكل مجالس عسكرية في المدن الليبية ليس من المؤكد أن المجلس الانتقالي بقادر على ضبطها بالكامل. وتم الاعلان رسمياً بأن الحكومة الانتقالية في ليبيا سيتم تشكيلها بعد الفراغ من تحرير باقي المدن الليبية التي لا تزال تحت قبضة القذافي. لكن عبد الجليل قد أعلن تشكيلة جديدة للمكتب التنفيذي أعلن فيها استمرار محمود جبريل في رئاستها والابقاء على جماعته في المكتب التنفيذي. وكان ذلك بمثابة طمئة لفرنسا على سلامة دورها في ليبيا، لكن ذلك الدور هو الذي تحدده بريطانيا وعلى فرنسا القبول بتلك القسمة. وهكذا فإن بريطانيا عملياً لم تفقد نفوذها في ليبيا، لكنها أشركت معها فرنسا.
بقيت مسألة متعلقة ب"الاسلاميين" في ليبيا. وبما أن ليبيا بلد مسلم ولم يكن قد تلوث كثيراً بالفكر الغربي فإن وجود المخلصين كان طبيعياً في الثورة الليبية، لكن جنوح الانتفاضة الليبية الى الثورة المسلحة واشتداد حاجة الثوار الى المال والسلاح وكذلك دخول الناتو بزخم كبير في الأزمة الليبية قد مكّن الغرب من ضبط الثوار المخلصين في ليبيا، ونجح الغرب فعلاً في جعل "الدولة المدنية" هدفاً معلناً للثورة. وهذا قد قضى على الكثير من الآمال بأن تحكم ليبيا بالاسلام حكماً فورياً بعد هزيمة القذافي، وقد مكن كل ذلك الغرب وبعض الدول في المنطقة لا سيما قطر من النفاذ بعمق الى قيادات الثورة في ليبيا وتخويفها من المناداة بالاسلام خوف اتهامها بالتطرف وأن تلقى مصير حركة طالبان في أفغانستان. لذلك فإن الدعوات لتحكيم الشريعة الاسلامية في الثورة الليبية هي دعوات خجولة بعيدة عن مركز القرار. لكن ما يجدر التنويه اليه، هو أن الثوار وكثيرهم مخلصون يمثلون الآن عصب المؤسسة العسكرية الليبية الجديدة، وهذا ما هو مؤكد أن الغرب يسعى لتفكيكه الآن، لكن النجاح في ذلك قد تكون مسألة عصية عن التحقيق في ظل الظروف الجديدة التي أرخت بظلالها على المنطقة عموماً، وعلى ذلك فإن المخلصين من المسلمين الأقوياء في الثورة الليبية في شرقها وغربها سيجثمون في قلب الأجهزة الأمنية الليبية والتي هي طور التشكيل الآن، ولا تمتلك أي من بريطانيا أو فرنسا الأدوات للتخلص من هذه المعضلة في المدى القريب، وهكذا فإن عامل رعب جديد للانجليز قد أخذ يستوطن الدولة الليبية بجانب الشراكة السياسية الفرنسية.
عصام الشيخ غانم
5/10/2011

هناك تعليقان (2):

  1. نتمنى منك تحليلا مميزا للاوضاع في مصر تنال به عز الدنيا والاخرة

    ردحذف
  2. المهندس يوسف9 أغسطس 2012 في 12:44 ص

    السلام عليكم

    تحليل عميق للواقع الليبي

    نور الله بصيرتك

    ردحذف